«المحرم والمباح».. توثيق فكري لأبواب محمد غني حكمت

خضير الزيدي

اهتمت الدراسات الفنية الأخيرة في العراق وبعض الدول العربية بالفن التشكيلي والأعمال النحتية. لامتلاكها ناصية التقدم البصري قياسا بمنجزات تخرج من هنا وهنا. وعلى هذا الأساس اهتم الناقد المعروف عاصم عبد الأمير وباشتغالات تحليلية وجمالية تختص بما أنجزه النحات محمد غني حكمت من ( أبواب ) اشتهر بها على مدار أكثر من ستين عاما .الكتاب الصادر أخيرا عن دار الأديب للصحافة والنشر لصاحبها هيثم فتح الله عزيزة اخذ حيزا واسعا من الالتفات لمعلم من معالم أعمال فنية برع فيها ( حكمت ) منذ أن وطأت قدماه أرض بغداد للمرة الأول فأصبحت الأزقة والتكوينات المحلية لجغرافيا بغداد تشغل باله وهواجسه وأصبح التأثير المكاني أكثير هوسا عليه قياسا إلى منجزاته الأخرى من النحت .ولعل التوصيف الذي قدمه عاصم عبد الأمير في ثريا الكتاب ( المحرم والمباح ) هو الأكثر دلالة بخصوص مثل هكذا منجزات .

الحفاظ على السياق التعبيري
الكتاب الأخير لعاصم وقع في مقدمة وعدة محاور جاء في مقدمته بان توجه هذه المحفورات بشتى أنساقها وحجومها يكشف عن وعي في التجاور على الأثر التراثي وبخصوص موضوعة التراث فقد رأى المؤلف أن اشتغالات هذا النحات لم تنغمس كثيرا في الموروث ولم تبتعد كثيرا فقد ظل محافظا على سياقه التعبيري الجامع لعلاقة المعاصرة بالأصالة فيما خط لأسلوبه هذا اقترابا من الخيال والواقع وسمحت له رؤيته البصرية والفكرية في إدارة وتغذية خطابه النحتي وحسب ما يمليه تنظير الكتاب فقد تداخلت الكثير من العوامل المحيطة به فكرا وصياغة أما عن الوسائل الإجرائية التي تمكن من تثبيت أسسها هذا الرمز الفني في العراق فلطالما زادت من متانة الأسلوب وأكسبتها قدرة فعالة فكل تلك الأبواب التي قدمت منذ بدايتها حتى اشتغاله الأخير يرى فيها المؤلف إنها ابتدعت لغة حوار معاصر مع الإرث التراثي بطريقة لا تدع الإرث يمارس هيمنته المطلقة واعتقد أن هكذا قابلية لم تأت من فراغ أنما ظل التناسق في البناء قادما من خيال خصب وقناعة في تثبيت الجمالية وفقا لمنظور تنظيري يؤكد علـى خطابـه محمـد غنـي حكمـت.

وضوح الشذرات النقدية
وعلى هذا التصور يبدو التنظير المقدم من قبل الناقد عاصم عبد الأمير وكأنه توثيق فكري قبل أن يكون نقدا تحليلا يصاحب في كتابه الكثير من الأعمال الملونة التي قدمت للقارئ في متن الكتاب في المقدمة ومثلما هو معروف عن أسلوب عاصم عبد الأمير كانت الشذرات النقدية أكثر وضوحا وسلاسة في تقديم وجهة نظره حيال تكوينات ( حكمت ) ولهذا يؤكد دائما على اعتبار أن تلك الأبواب الناشئة باختلاف أزمنتها ستتحول إلى استعارات للتحول والرموز والمفارقة مع امتلاكها لحمولة عاطفية يؤكد خطابها البصري على أنها ضرب من استعادة حياة مفقودة وجدت في العشرينيات وما قبلها ثم اندثرت وذهبت أدراج الرياح إلا أن غائية محمد غني وبحكم الانتماء إلى بيئة شرقية (وبغدادية صرف) هي التي تركت ثقلا بالعودة لمنابع خطابه الوجداني والصوفي أن صح التعبير هنا ضم الكتاب الأخير للمؤلف أربعة محاور جاء الأول تحت مسمى ( اكبر الأبواب .. أبواب مملكة خيال ) والمحور الثاني سمي ب( تهذيب الحرفة ) والثالث عززه الأمير بمنطق ( العضوي والمجرد ) أما الرابع وهو السياق الأخير لمحاوره فكان تحت المسمى ( تقابلات وإيقاع ).

ذاكرة الناقد
هذه المحاور ولجت في التنظير إلى أعماق الفكر النحتي المصاحب لتلك الأبواب تحدث الناقد فيها عن رمزية الباب ومنظومة الاشتغال المحلية وقوام الخطوط العريضة منها وطبقاتها وعضوية عناصرها إضافة إلى دراسة معمقة ووافية عن محمولاتها الدلالية التي لم تغب عن هيمنة وذاكرة الناقد والتي يرى في صلابتها بث رسالة الفكر ولعل الإشارة المهمة التي أبدها مؤلفنا أن أي مسح تحليلي لبنية الأبواب يبدو من قبيل الأحلام النقدية لسعتها ولاتساع نطاق المحاور وهذا ما يؤكد على أن كل تلك الأعمال قد تنوعت في المضامين والدلالات الحية التي استوفت للشرط الجمالي والنظري ومع كل هذه التوجهات النقدية يصر مؤلف الكتاب على مسألة غاية في الأهمية عندما يشير إلى الفنان قد وضع خطا فاصلا بين الحرفة والفن ليمنح الفن سلطة تهميش الحس الحرفي توقا للجمال وهذا الأمر لطالما أكده بعض من النقاد ممن ولجوا عوالم نحت ( محمد غني ) واستطيع القول والمشاركة هنا أن براعته وقوة بصيرته في العمل والفكر قد جعلته منتبها لاغواءات تفرضها وتسوقها ( الحرفة ) وهذا ما يبقيه بعيدا عن عيون تلصص الرتابة والتكرار في العمل الواحد … ولم يتوقف صاحب الكتاب عند هذه الملاحظات المهمة لأعمال النحت بل يتطرق وبشكل تفصيلي طالما عرف عنه الدقة في التصريـح عن اندمـاج الأشكال الأسطورية والأشكال المجردة وطريقـة تكويناتها الزخرفية وما تدفق منها من وجدان ورمزية فتتم الإشارة هنا إلى التراكيب البنائية ومؤثرات الإقامة في خريطة النحت والمحافظـة علـى ثوابـت التـوازن فـي التعبيـر ومن بيـن مـا أراد قوله عاصم عبد الأمير في هذا المحور هو أن الفنان ( محمد غني) قيض له آن يعيش عصر احتضار فن المحفورات علـى الخشب ومنها بالتأكيد الأبواب التـي عرفـت بغـداد القديمـة بها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة