كما وجدها نيوتن عندما أكتشف قانون الجاذبية بعد مشهد سقوط التفاحة، وجد رئيس برلماننا العتيد محمد الحلبوسي ان “العراق للعراقيين” تلك الصرخة التي أطلقها في جلسة البرلمان الصاخبة بعد التصويت على مشروع قانون الانتخابات الأخير. هذا الاكتشاف العظيم الذي اكدته طرقاته الحماسية على طاولة الرئاسة، جاء بعد اعلانه عن حجب حق الترشح للمسؤوليات العليا عن مزدوجي الجنسية. لقد شاهدنا جميعاً ذلك المشهد الشعبوي للسيد الحلبوسي والمحيطين به من اعضاء أحد أكثر البرلمانات فشلا في عراق ما بعد “التغيير”، وهم يهتفون بشعارات تحتفي بذلك الاكتشاف الخارق، ومأثرة برلمانهم في استرداد العراق من عبث العابثين بسيادته ووحدته. لكن هل بمقدور مثل هذه المسرحيات البائسة، اقناعنا بحرص هذا البرلمان وبكونه مسكون حقاً بمثل هذه الهموم..؟ في الاجابة على هذا السؤال لا نحتاج الى جهد وذكاء خارق، كي نكتشف زيف كل تلك الحماسة والانفعالات الاستعراضية، والتي ترافق دائماً هذه الفصول الفاشوشية في تاريخ الشعوب، ومن يتمعن جيدا بعلل مثل هذه الممارسات، سيجدها لا تخرج عن تكتيكات النعامة وتقنيات الهروب الى الامام، والعجز عن مواجهة المخاطر والتحديات الفعلية التي تواجهنا.
قبل الخوض في تفاصيل هذا الملف الشائك “مزدوجي الجنسية” علينا الاتفاق على ما اقترفته اعلى سلطة تشريعية في البلد، من خرق سافر للدستور (العراقيون متساوون في الحقوق والواجبات) بحجبها حق الترشح عن ملايين العراقيين الذين قذفتهم الاقدار للعيش خارج وطنهم الام (العراق). بعد ذلك لنقتفي أثر تلك الصرخة الحلبوسية وعلل كل ذلك الانفعال والتضامن الواسع الذي حظيت به؛ سنجدها بوضوح في الحملة المبكرة التي شهدها عراق ما بعد زوال النظام المباد، والتي اضافت الى قاموس ثنائياتنا القاتلة موضوعة “عراقيو الداخل وعراقيو الخارج) حيث تبلورت لاحقا لتصب جام غضبها على مزدوجي الجنسية، بوصفهم اساس بلاء الوطن ومنبع خيباته وهزائمه، وبان الجنسية الثانية تسلب منهم وطنيتهم وتسمح لهم بممارسة كل اشكال اللصوصية والاجرام من دون ادنى خشية من مواجهة العقاب، لانهم سيلوذون بحماية بلدهم الثاني، ومثل هذه الاكاذيب تم ترويجها وترسيخها بشكل واسع، رغم زيفها وكذبها السافر، حيث الاعراف والقوانين والمعاهدات الدولية صارمة في هذا المجال، ولا علاقة بالجنسية الاخرى لا في وجود تلك الذرائع ولا في وطنية وكفاءة ونزاهة هذه الشريحة.
بالرغم من عدم امتلاكي لجنسية اخرى، الا انني عرفت كل تفاصيل تجربة العيش في المنافي لمدة ربع قرن (1979-2004) ونوع الحياة من دون امتلاك وثائق رسمية، لعدم قدرتك على مراجعة سفارات بلدك لاستحصال أو تجديد تلك الوثائق لاسباب معروفة. شروط غاية في القسوة دفعت ملايين العراقيين للهجرة الى كل أصقاع العالم، ومن المؤسف ان تتفهم حكومات وتشريعات تلك البلدان طبيعة محنتهم الانسانية، لتمنحهم كل ما عجزوا عن نيله في بلدهم الام، من حقوق ووثائق تليق بهم كبشر متساوون في الحقوق والواجبات، ولا يتفهم ذلك من قذفتهم الاقدار العابثة في وطنهم الى سنام السلطات (البرلمان). انها فضيحة من العيار الثقيل يضيفها هذا البرلمان البائس، الى سجل فتوحاته ومآثره في استرداد “العراق للعراقيين”. اننا بامس الحاجة الى قرارات وتشريعات تعيد ترميم العلاقة بين العراقيين جميعا، لا تشريعات تفاقم من حالة التشرذم والتمييز بينهم على اساس “الثنائيات القاتلة”، بحاجة الى وعي وقيادات متخففة من فضلات الرسائل الخالدة وما خلفته الانظمة الشمولية من عاهات ذهنية…
جمال جصاني