اليوم الذي لا يقرأ جبرا فيه ولا يكتب يراه وقتا ضائعا

شكيب كاظم

بالأمس القريب، الذي أمسى بعيدا ( مساء الأربعاء ٣٠من آذار ١٩٩٤) أقام اتحاد الأدباء والكتاب في العراق جلسة احتفاء نقدية، خصصت للروائي والناقد والمترجم جبرا إبراهيم جبرا، لمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين من العمر، كان زاخرا حيوية وبشرا وحبورا، وهو يحضر جلسة الاحتفاء النقدية تلك، التي شارك فيها عدد من النقاد والباحثين منهم؛ الفنان التشكيلي نوري الراوي، والمترجم والأستاذ الجامعي الدكتور سلمان داود الواسطي، والناقد فاضل ثامر، وإذ انتهى المتحدثون من أحاديثهم، بعد أن درسوه فنانا تشكيليا، ومترجما، وروائيا وناقدا، نهض الراحل العزيز؛ نهض أبو سدير فاعتلى المنصة، متحدثا حديثا ممتعا شاملا عن حياته ونتاجاته، إذ ولد جبرا في بيت لحم بفلسطين سنة ١٩٢٠،وانتقل بعد سنوات مع أبويه إلى القدس.

برغم السنوات الطويلة التي أمضاها جبرا في العراق، إذ إنه توجه إليه أواخر سنة ١٩٤٨، بعد قرار التقسيم ومن ثم قيام الكيان الصهيوني في منتصف شهر مايس من تلك السنة، بالرغم من كل تلك السنوات كنت تجد نكهة فلسطينية في حديثه؛ اللهجة الفلسطينية تفصح عن ذاتها في حديث جبرا، والأمر ينسحب على الراحل العزيز الشاعر خالد علي مصطفى ( توفي في ٢٠١٩)، نافيا جبرا عن نفسه ما ينسب إليه بوصفه بطل العديد من رواياته، عزا ذلك إلى أنه يكتب بضمير المتكلم في إدارة رواياته، غير ناف أن بعض أعمال الكاتب تمثل جزءا من شخصية مبدعها،. وإن عملية التأثر والتأثير دائبة بين المبدع وشخوصه، أو بطل رواياته.

إنه يقرأ كثيرا ويكتب كثيرا، واليوم الذي يحياه من غير قراءة ولا كتابة يعده يوماً ضائعا.

يحدث أن يمرض جبرا، فيناجي ربه أن يطيل عمره أياما كي ينجز هذا الذي بين يديه، اخوف ما يخافه جبرا أن يضيع الموت أحلامه، بإنجاز ما يزخر به رأسه الموار بالافكار، لقد كان جبرا كبيرا في طموحاته وكبيرا في نتاجاته ومشاريعه الثقافية والإبداعية، وإذا كانت النفوس كبارا مثل نفس جبرا، تعبت في مرادها وتنفيذ مشاريعها الأجسام، وهكذا ناءت الروح وتعب الجسد، وهما إزاء مشاريع جبرا الطموح، ولا سيما بعد رحيل عقيلته لميعة، الذي ترك في نفسه ألما ممضا وفراغا واسعا، انها مثل ( الزا) بالنسبة للشاعر الفرنسي لويس اراكون، أو سيمون دو بوفوار مع سارتر،  أو غادة السمان إزاء غسان كنفاني.

يزوره الروائي الذي غادر الدنيا مبكرا؛ غازي العبادي، فيهتبلها جبرا فرصة كي يحدثه عنها، عن لميعة، أتذكرها؟ كانت تجلس هنا، كانت أم سدير تنظر بهدوء من وراء نظارتها الطبية، وهي في كرسيها المتحرك، وأشعة الشمس تخترق زجاج النافذة وتسكب دفأها على قدميها الملفوفتين ببطانية وهي تنظر إلى الحديقة الصغيرة المنسقة، وجبرا إلى جانبها يجذب انفاسا من غليونه، وهو يتحدث إليها بلغة عاشق متيم.

وإذا كان لجبرا أن يفخر، فله أن يفخر بمشروعه الثقافي الرائع بترجمة روائع وليم شكسبير إلى اللغة العربية، فعلى الرغم من كثرة الترجمات لهذه المسرحيات بدءا بترجمة الشاعر خليل مطران، بقيت ترجمة جبرا لهذه المسرحيات تنال رضا النقاد والمتخصصين والقراء، مع ان الشاعر والمترجم العراقي الضليع الدكتور صلاح نيازي يبسط رأيه في ترجمة جبرا، وكذلك ترجمة الناقد المصري والأستاذ الجامعي الدكتور عبد القادر القط لمسرحية ( هاملت) في دراسة مهمة عنوانها ( هاملت بين القط وجبرا) انها تفتقر إلى شرط مهم وهو الشروح والهوامش، التي تيسر للقارىء فهم النص الشكسبيري الذي أمسى ملغزا وعسير الفهم، لعله بسبب البعد الزمني وتغير المفاهيم، وهذه الصعوبة عانيتها وأنا أقرأ مسرحية (فاوست) للشاعر الألماني ( كوتيه) على الرغم من جدارة المترجم الدكتور محمد عوض محمد،الذي ترجمها عن الألمانية مباشرة، وللأسباب ذاتها، صلاح نيازي يصف ترجمتهما؛ بالفهاهة والنعثلة والبرودة!

وارى أن كلا خلق لما يسر له وهذا هو اجتهاد جبرا، لا بل إنه تقحم عوالم صعبة،واعني أعمال وليم فولكنر ،التي لا يستطيع القارئ سبر أغوارها من القراءة الأولى، ولا سيما روايته ( الصخب والعنف).

جبرا إبراهيم جبرا، لمواهبه العديدة اصفه بكشاجم زماننا؛ و(كشاجم)شاعر حباه الله بمواهب شتى، عاش أيام الدولة الحمدانية في حلب وأميرها سيف الدولة، واختلف إلى بلاطها ردحا من الزمن، وهو فلسطيني أيضاً من مدينة الرملة وإليها نسب، اسمه الحقيقي أبو الفتح محمود بن الحسين الرملي، وأطلق الناس عليه اسم (كشاجم) لمواهبه العديدة التي أجادها فجعلوا لكل حرف ما يوازيه من مواهب تمتع بها، فالكاف تعني الكاتب، والشين بوصفه شاعرا، والألف أديبا، والجيم مجادلا، والميم مغنيا!

أرى أن هذا الفتى المقدسي، الذي غادر وطنه نحو دمشق، وشاءت المصادفة أن يصل إلى علمه وصول وفد علمي عراقي، للتعاقد مع كفاءات كي تعمل في الكليات والمعاهد العراقية، فالتقى جبرا برئيس البعثة العلمية؛ الدكتور عبد العزيز الدوري، الذي كان قد نال الدكتوراه من جامعة كمبردج وشيكا، فيتعاقد مع جبرا أستاذا للأدب الإنكليزي، هو الدارس في كمبردج أيضا فضلا عن هارفرد الأمريكية، هذا الفتى المقدسي الذي عاش في العراق نحو نصف قرن، وتوفي فيه ووري ثراه، لم يقف الدارسون إلا لماما عند مشروعه الثقافي، الذي استقطب الصفوة من شباب الأدب،. وأعني مجلة (العاملون في النفط) وكنت مشتركا فيها سنة ١٩٦٦وتصلني إلى مقر عملي في مستودع نفط ناحية العزير جنوبي مدينة العمارة، وقيمة الاشتراك السنوي. ربع دينار؛ مئتان وخمسون فلسا! أصدرتها شركة نفط العراق (ipc) هذه المجلة الأنيقة بورق صقيل ولوحة تزين غلافها الأول لكبار الرسامين العراقيين، تولى رئاسة تحريرها الأستاذ جبرا، يعاونه في ذلك المقالي الأنيق الأستاذ عبد المجيد الشاوي، ومن خلال (العاملون في النفط) تعرفنا على جيل الشباب من أدباء الستينات، سركون بولص وفاضل العزاوي وزهدي الداودي، وأسماء ضاعت من الذاكرة.

وإذ درس الباحثون المجلات الريادية في العراق؛ الثقافة الجديدة، الكاتب العربي، الأسبوع، فضلا عن (الكلمة) التي أصدرها الراحل العزيز حميد المطبعي (توفي في 2018)فمن الضرورة درس مجلة ( العاملون في النفط).

مما يحسب لجبرا- أيضا- أنه لم ينغمس في السياسة في العراق، أو بالحري لم يقترب منها ابدا، وعرف وضعه، لذا لم يتعرض إلى ما تعرض إليه آخرون.

يوم الإثنين الثاني عشر من الشهر الثاني عشر من سنة ١٩٩٤نعاه الناعي، نعى جبرا المتيم بلميعة العسكري؛ سليلة الأسرة الأرستقراطية، ما استطاب العيش بعدها، فما عتم أن لحق بها، وتلك الأيام طريد وطارد.

حاشية  

أقام بيت المدى للثقافة والفنون في شارع المتنبي ببغداد، ضحى يوم الجمعة السابع من محرم الحرام/ 1441ه-السادس من أيلول/ 2019جلسة استذكار نقدية للأديب جبرا إبراهيم جبرا، أدارها الباحث رفعة عبد الرزاق محمد، وتحدث فيها تباعا: الدكتور جواد الزيدي، والناقد علي الفواز، وشكيب كاظم، والدكتور حسين علي هارف.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة