د.ثائر العذاري
ثمة روايات يمكن أن نسميها روايات المدن، وهي تلك الروايات التي تعالج حركة المجتمع عبر نقله إلى مدينة متخيلة، كما فعل ماركيز في مئة عام من العزلة، ونجيب محفوظ في الثلاثية، تلك المدن متخيلة حتى حين تحمل أسماء مدن حقيقية، فمدينة دبلن عند جويس مثلاً ليست دبلن الحقيقية، وفي هذه المدينة المتخيلة يحاول الروائي قراءة حركة المجتمع في مدة محددة من التاريخ بعيون رواته.
ويمكن أن تعد رواية (جوكات) للروائية المصرية انتصار عبد المنعم (التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في أغسطس ٢٠١٩) من هذا النوع من الروايات، فقد اختارت لروايتها مدينة متخيلة اسمها (جوكات)، وعند البحث نجد أن هذا الاسم ورد في كتابات سابقة للروائية، ففي كتابها (حرف الأجداد .. مستقبل الأحفاد) الصادر عام ٢٠١٥ تعقد فصلاً بعنوان (إطلالة على تاريخ مدينتي إدكو ورشيد)، تذكر الاسم (جوكات) على أنه الاسم الفرعوني لمدينة (إدكو) الواقعة قرب مصب فرع النيل الغربي (رشيد) في البحر المتوسط ص٨٥. وهي هنا تستعمل ذات التكنيك الذي يوظفه ماركيز في أكثر من عمل، حين يصور مجتمع (ماكوندو) القرية الصغيرة لكنه، في الحقيقة يتحدث عن المجتمع البشري كله.
واللافت في الرواية من البداية استعمال تعابير الكتب المقدسة للعنوانات الداخلية، بعد إعادة صياغتها لإنتاج دلالات جديدة مضادة، فبنية الرواية تقوم على أن لكل خبر في الكتب المقدس جانب آخر مضاد له، فالرواية تقع في قسمين؛ (السفر الأول لعنة الخروج) في مقابل سفر التوراة الثاني (الخروج) الذي يتحدث عن انتصار الرب لموسى وقومه بخروجهم من مصر وإهلاك فرعون وجنده، بينما يروي السفر الأول في (جوكات) حكاية تخلف بعض اليهود عن الخروج ولجوئهم إلى التلال القريبة من (جوكات)، والمفارقة أن يكون اسم زعيم هؤلاء وصاحب فكرة التخلف (شلومو بن لاوي)، والمعروف أن اللاويين هم كهنة اليهودية، وجاء السفر الثالث في التوراة الذي ينظم أحكام الشريعة باسم (سفر اللاويين).
يحكي القسم الأول حكاية هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم بين بطش فرعون وعدم تصديقهم لوعود موسى بالنجاة، فدفعهم رعبهم إلى الاعتقاد بأن قوتهم في الذهب الذي راحوا يدبرون المكائد لسرقته واكتنازه لأنه وسيلتهم للسيطرة والأمان بعد إنشاء مملكتهم، ولذلك عاشوا مجتمعا مغلقا متخفيا يحتكر الذهب والعلوم منتظرين أن تحين الفرصة للتغلغل في مجتمع (جوكات) والسيطرة عليه واستعباده.
وترصد الرواية تحولات هذا التجمع السري عبر التاريخ وظهور المسيحية ثم الفتح الإسلامي، وفي كل تلك المراحل كان ذلك المجتمع يتلون ظاهريا بلون العصر الجديد بينما يحافظ سرا على معتقداته، أما سكان جوكات الأصليين فقد كانوا يدفعون ضريبة الخضوع والابتزاز في كل تلك العصور التي كان فيها رجال الدين من كهنة وقسس وشيوخ يستعملون الدين وسيلة للاستعباد والسيطرة.
أما (السفر الثاني لعنة الماء) فيقف في مواجهة قدسية الماء الذي وصفته الكتب المقدسة بأنه مكان عرش الله، ومصدر كل حياة، فالماء في الرواية مصدر للموت أيضا، لأن هذا القسم يركز على حكاية إبراهيم أحد المصريين البسطاء من سكان (جوكات)، الذي عاد إلى أهله بعد سنوات من العمل في السعودية ليموت غرقا مع من غرقوا في العبارة (سالم أكسبريس) عام ١٩٩١.
وعلى الرغم من أن الرابط الظاهر بين السفرين هو مآسي سكان (جوكات) وما يلاقونه من قهر، فإن ثمة رابط خفي بينهما، فبعد سنوات من غرق العبارة يتعلم يوسف ابن ابراهيم الغوص ويذهب مع فريق من خمسة صحفيين مغامرين هو سادسهم لاستكشاف العبارة المستقرة في قاع البحر، ويضم الفريق صحفية اسمها يهوديت سمع منها كلاما يستخف بدماء المصريين. كما نعرف بعد ذلك أن يوسف أنشأ قبرا رمزيا لوالده في مقبرة البلدة التي استطاع سكانها بصعوبة شراء أرضها من أبناء شلومو الذين باتوا يسيطرون على معظم أراضي (جوكات).
هناك تقنيتان مهمتان وظفتهما الرواية لبناء النغمة المناسبة للسرد؛ فأما الأولى فهي (الراوي) حيث لم يكن منطقيا أن يكون أحد أبناء (جوكات)، لأنه لن يشعر بالخديعة، ولا أن يكون أحد أحفاد شلومو بن لاوي لأنه لن يكشف أسرار مجتمعه، فبنيت الرواية على منظومة من الرواة يقودها راو لا يمكن أن يكون من البشر لأنه شاهد على التاريخ كله، رآه رأي العين، بل إنه من أول الرواية إلى آخرها يروي حكايات الشخصيات بضير المخاطب، فهو يخاطب الشخصيات مباشرة ويحكي لها ما حل بها، وهو أيضا قادر أيضا على ترقية أي من الشخصيات لتصبح راويا ثانيا وتتحدث بضمير المتكلم كما فعل مع ابراهيم ثم مع ابنه يوسف. هذا الراوي الخالد في التاريخ يسلب القارئ صفة (المحكي له)، فالمحكي له محدد دائما بوصفه إحدى شخصيات الرواية.
وأما التقنية الثانية فهي لغة الراوي التي تكشف عن تعاطفه الشديد مع سكان (جوكات) ومآسيهم، فلم تكن لغته محايدة، كما ينبغي للغة الراوي العليم، بل كانت لغة وجدانية Lyrical تقطر ألما وهي تصور ذلك الكم الهائل من القهر لمجتمع بسيط كل همه أن يعيش بسلام.