علي لفته سعيد
تعتمد نصوص الشاعر عبد السادة البصري على ما تمنحه المفردة من دلالة تصويرية يراد لها أن تقترب من المستوى الفلسفي كونه يبني النص على مساحةٍ شبيهةٍ بالسرد المتناوب الذي يريد جعل منظومة الصراع هي الوجه الأعلى للنص.. البصري في مجموعته ( لم أتسعر وجها ) الصادرة عن الشؤون الثقافية 2015 لا تبدأ مشاكستها الشعرية من العنوان فحسب، بل حتى من طريقة تبويب النصوص التي بلغ عددها 48 نصا وزّعها على ثلاثة أقسامٍ، ضم القسم الأول 14 نصّا وحمل عنوان المجموعة والقسم الثاني الذي حمل ( ذلك هو أنا ) وضم 20 نصا، والقسم الثالث الذي حمل عنوان ( تضاريس ) وضم 14 نصا مع تفرّع أحد النصوص الى 10 أقسام حملت حروفا تبدأ من ألف وتنتهي بصاد وهي دلالة بنائية يراد لها الدخول في عملية المناقشة منذ البدء بتقشير العنونة الرئيسية التي دخلت كعنونة فرعية مع العناوين الأخرى، باعتبار أنها تشبه الأواني المستطرقة، ليس من ناحية تساوي الأفكار بل من ناحية استخدام الطريقة البنائية في منح النصّ الشعرية شاعريته التي تأخذ منه الكثير في بعض المرات، لإعطاء دفق الصراع أهمية كبيرة.. فالعنوان الرئيس الذي كان من الأجمل لو جمع عناوين الاقسام الثلاثة ولا يكون عنوان أحد الاقسام لكي تتم بلورة النقاش في المستويين القصدي والتأويلي.. لذا فان عنوان الأول (لم استعر وجها ) يجنح في معالجة المحاولة الفلسفية بهذا الاتجاه العام الذي يريد ان يبني وضوح الذات على مرايا الشعر وإن انعكاس الصورة هي واحدة لا تغيير فيها من خلال تفعيل الدلالة التأويلية لهكذا عنوان، يرتبط بالمعنى والدليل لعنوان القسم الثاني ( ذلك هو أنا ) وكأنه يواصل عملية التبني لتوضيح أكثر للمرايا التي تعطي صورة الذات الواحدة على اعتبارها إن لا شيء سوى ( أنا ) الشاعرة أو الساردة للشعر أو المهيمنة على طريقة انتاج النصّ الشعري الذي يختمه بوضوح الأشياء عبر قسم ( تضاريس ) وكأنها رسالة هامة ان لكل منّا تضاريسه الخاصة، وإن الشاعر واضح كوضوح المرايا وإن الأمر يحتاج الى عملية الدخول الى المعنى الشعري لاستخلاص التأويل ومعرفة القصد ومسك المغزى بل يحتاج الى عملية صيد ما يتم تراكمه من وضوح هذه النصوص جميعا.. وهي أي عمليات الوضوح عبر الاقسام الثلاثة تنطلق عبر ثيمات عديدة، ربما بعضها غير متاحٍ أو مرئي، وبعضها محاولة لجد الذات أو استحضار الماضي أو الهجاء للآخرين، حيث يبزّهم بالحب الذي يعتريه والمسكون فيه حد الوله.. لذا فان أغلب هذه الثيمات تقترب من الفعل السردي حيث تتوكّأ على بدايات الأفعال في أغلب النصوص التي تريد تقشير كلّ ما له بثلاثية الاقسام .. فما بين البحر والغيم والحلم والشوك والحرب و(العذراوات وهن يرششن ورود اللقيا ص39) او مواصلة المعنى (نهاراتهم عمل دؤوب/ ولياليهم سمر وحكايات ص27) او يمضي الى لكونية الحرب ( هناك/ كان الفجر اكثر هدوءا/ حين سرقا الطلقات/ اخر طيف / كم خيال فراشة اسبانية ص57 ) او يحاول الدفاع عن النفس ويطلق حروفه مباشرة من الذات الى الاخر ( اندفعي/ اندفعي بعيدا عني/ ايتها الغيوم الرعناء/ لا سقف عندي ص83 )او التماهي مع المكان ليكون اغنيته المعشوقة ( كوني أكثر اقترابا مني/ لأكون اكثر التصاقا بالأرض / أفكاري تحاصرها الغيوم ص109) وان كانت جميعها بطرائق مختلفة وبأساليب مختلفة سواء في بنية النص الشعري لديه على مستويات التقطيع الجملي أو تسطير الكلمات عموديا أو جعلها مادة سردية توصيفية لما يراد من الفكرة أن تكون
ولذا فإن اللغة المبثوثة وإن كانت تتحدّث عن آخرٍ سواء كان جمعًا أو مفردًا.. أنا أو متكلّم أو مخاطب، هي تصبّ في ذات الاتجاه الذي حفره الشاعر ليكون له نهرا.. فهو يقفز بين الدلالات التاريخية والحياتية والاجتماعية الانية لترتبط لديه المعادلة .. (فكرة – غاية – إرسال- عنوان – نص شعري) وهي خلاصة لما يمكن أن تجمعه هذه النصوص العديدة في هذه المجموعة التي تقع بنحو 151 صفحة والتي تشي بإنها عملية إخضاع الفكرة لمبدئية الشعر، واخضاع الشعر لغائية الفكرة، واخضاع الغائية لهدفية المعنى، كون البصري يميل في أغلب نصوصه الى جعل المفردة تحمل غنائيتها حتى في تلك التي تعيش سوداويتها المثيرة للجدل.. لذا تبدو عناوين النصوص وكأنها مصابيح معلّقة أعلى البناء ليتمّ الكشف عنها مرّة عبر تساؤلٍ محدّدٍ، ومرّة عبر توظيف المفردة السردية وأخرى عبر فعلٍ مرهونٍ بما يمكن بثّه داخل الجسد الشعري وأيضا عبر التنقّل ما بين المتكلّم والمخاطب أو الجمع والمفرد أو التوصيف الشيئي الذي يجعله مادة شعرية مخاطب لها ( استمري../ استمري بالتحليق أيتها الطيور المهاجرة/ البحر سرق المقلتين ص77)
مجموعة البصري محاولة لبناء نصّ شعري لا يقوم على الأخذ بيد الفكرة الى شاطئ الأمان، بل يحاول أن يجعله متعدّد الغايات لكي يفلت من عقال البساطة ولا يغوص في فذلكة الجملة الشعرية، وأن يقود المعنى عبر السؤال الفلسفي، أو التحليل القصدي بماهيات الفكرة التي تقبع في رأسه.