ابراهيم سبتي
القصة القصيرة تأخذنا احيانا الى مديات معرفية وفنية غاية في المتعة والسمو من خلال استبطان الاشياء والافصاح عنها بدافع الابهار وزيادة الشغف والوصول الى حالة الانتشاء التي نبحث عنها، من هنا يتبين السياق العام للقصة وكم من المهارة تحملها ان احسن الكاتب رصف جملها وصياغة سردها بأسلوب مائز.. في مجموعته القصصية الجديدة « قبل نهاية العالم بدقيقة « للقاص باسم القطراني، ثمة اشياء تظهر في كل قصة وقد افتقدها الراوي وصارت ربما بعيدة ليستحضرها ويسجل السبق في ذكرها للقارئ الذي كان يوما يعيشها او سمع بها. انه احساس بالبحث الدؤوب عن عناصر كانت تضيف للبناء رصانة التعبير والقبض على مفتاح السرد على امتداد قصص المجموعة. ففي القصة الواحدة تجد سؤالا محيرا يلف الشخصية ولا يجيب عليه الراوي وكأنه يطلب من المتلقي ان يقترح الجواب او يؤسس للخاتمة كما في قصة « دم بارد « الذي يعلن موت الراوي فيحيل النهاية الينا لنتخيلها مع انه اعطى اكثر من احتمال لبطلها سرحان، لكن تأويل المتلقي يبقى مهما في تحديدها وهذا ما يجعلنا نستمتع بالبحث عن النهاية التي تناسبنا وهي ما تصادفنا في النهايات المفتوحة في القصة القصيرة « ولان الراوي لقي حتفه في حادثة الانفجار تلك فنحن امام احتمالات عدة لما حدث لاحقا اهمها ان سرحان قد تحول الى اشلاء متناثرة هو الاخر ، او ربما نجا بأعجوبة لكنه فقد ذاكرته من هول العصف « ص 20 . وفي هذه القصة نجد ذكرا للقوات الاجنبية وهي تمر بأرتالها وهي اشارة تراجيدية للاحتلال الذي عصف بالبلاد وما نتج عنه. اعتمد القاص على تنويع ثيماته في قصصه ولكنها تقترب من موضوعة الفقدان والتخيل والموت والامنيات الضائعة والتي رأيتها في أكثر قصص المجموعة. خلقت الامنيات الضائعة مشاعر الترقب والرصد بين ثنايا السطور حين نجد ان الامنية التي تظل تحوم في رأس الشخصية تذهب الى العدم فجأة ولم يحصل عليها او تتحقق له كما في قصص (ترنيمة الطائر الاعمى، دم بارد، قبل نهاية العالم بدقيقة، سبتايتل) فقد افصحت عن مناح عديدة في تصور الاشياء دون القدرة على الحصول عليها وبالتالي فان المتلقي سيفاجأ بانحراف اتجاه السرد الى ناحية لم يحسبها وتكون اكثر وقعا في التأثير عليه، ففي قصة « ترنيمة الطائر الاعمى « ، نجد الحكاية وقد اتخذت مسارا واضحا في ايراد السرد منذ الطفولة كما يصف الراوي بأنها طفولة متأثرة ومؤثرة في الشارع وان الاصدقاء القرود كما وصفهم الراوي كانوا اكثر تأثرا عند انتقال عائلة صديقهم من المحلة لأسباب سياسية والطامة الكبرى بانهم نسوا الببغاء الاعمى في نقل اغراضهم فثارت ثائرة الطفل الذي عشقه لكنه يصاب بالصدمة حين يسمع من احد الجيران يخبره بان طائرة قد وجد ميتا في الشارع وكان المالك الجديد للدار وهو من اعوان النظام قد قتله وتخلص منه . نكون قد وصلنا الى قناعة بان هذا « الرفيق « قد قتله للتخلص من ارث قديم ينتمي الى عائلة معارضة ولا يريد ان يبقي اي اثر لها لأنها بنظره تعارض النظام الذي ينتمي ويدافع عنه، وفي قصة « قبل نهاية العالم بدقيقة « تحبس انفاسنا بانتظار اصطدام احد الكواكب بالأرض حسب ما تقول وكالة ناسا الفضائية وقد حددت المدة الزمنية بالاصطدام ساعة واحدة متبقية من عمر الأرض، فكان الاب الذي يفكر في البحث عن وسيلة للخلاص من هذا الفناء الشامل، قد انفق كثيرا من الوقت وهو يفكر حتى توصل الى نتيجة مأساوية حين حفر قبرا له تفاديا للاصطدام والفناء وراح اولاده يهيلون عليه التراب عندما بقيت دقيقة واحدة. ان البحث عن الخلاص ربما لا ياتي وفق ما يخطط له، بل ربما يكون نهاية حتمية وبذا نكون امام مفارقة جوهرية ونحن نجد بان الاب الذي أنهى حياته بالخلاص الذي اختاره، كان يعبر عن الحالة الراهنة التي ظل الناس تترقب فيها الخلاص من وضع بائس لتجد نفسها في وضع صعب وازمات متكررة لا حلول لها.
ان الرمزية التي حملتها قصص باسم القطراني هي نقلة ذهنية ذكية لما يمور في دواخلنا من حالات كان القاص واعيا لما التقطه منها فصارت بؤر القص متطابقة مع الواقع الذي نعيشه ولكن بأسلوب فني ممتع، ونقلنا القاص في أكثر من قصة الى التخيل السردي الذي ينم عن افكاره المتوقدة وهو يدخلنا في عوالمه التي بدت متقاربة مع عوالمنا نحن المتلقين، فسحب الفضاء القصصي الى اماكن رخوة من الافكار والخفايا التي تنتابنا احيانا فخلق منها صورا غرائبية متفاعلة واكثر تأثيرا ونحن نمعن في قراءة المجموعة، ونجد الغرائبية المخلوطة بالواقعية في قصة « منزل الكتب « التي اختار لها القاص موضوعا مختلفا وبناه وفق معايير الصنعة فكانت الكتب المرصوفة في المكتبة مادة لبناء البيت الذي يحلم به ويحقق امنيته ببيت مادته الكتاب بدلا من الطابوق وهو امر غريب ويوحي بالفطنة وحسن التخيل التي امتاز بها القاص في مجموعته التي تضاف الى منجزه القصصي « كان الناس يتجلون فيه وهم يتصفحون آلاف العناوين لكتّاب وباحثين شتى ويشمون عطر النظريات والافكار تترنج في فنائه، يتحسسون صقالة الكتب ونتوءاتها البارزة احيانا ولم يشعروا بما حوته المتون والافكار التي يستند عليها المنزل العجيب « ص 58. ان مجموعة القاص باسم القطراني، هي المعاناة التي تكتسحنا واليأس الذي يمور احيانا في تفكيرنا وهو ما جعل من القصص، عنوانا لعتبات متعددة لا تقتصر على واحدة حسب ما ادلى به في كتابه من توافق وتجانس بين قصصه والمقاربات التي اوصلت المجموعة الى مستويات من التفاعل والمعطيات المؤدية الى مفهوم السرد المتصل بثيمات مختلفة وهو ما رايته في قصص باسم القطراني.