«دم الثور» والمقاربة التاريخية(1)

القسم الثاني

علي سعدون

ولهذه القوة التاريخية بالوصية ما يماثلها عند كارمن : جدي هو من اطلعني على الطريق، وقال لي : لا معنى للحياة اذا بقينا خارج الطريق» وفي كلا الوصيتين ثمة مسافة بين القبر الذي يضم رفات العقل وبين معنى الطريق عند كارمن. هذان المنطلقان يختصران الكثير من عقدة الحكاية، عقدة الرواية برمتها على وجه الدقة. وبالتالي ستحتم علينا القراءة التحليلية ان نكتشف علاقة دم الثور بروزبه، وعلاقة الشرق بالغرب – بغداد وغرناطة -، ثم علينا ان نتعرّف على علاقة الفصل المفقود من كتاب «كليلة ودمنة» وعلاقته بأفول الحضارة العربية التي ظلّت منقوصةً ومهزوزة بغياب عناصر ازدهارها. هذا الاقتران غير المرئي بين سعدي وكارمن، سيؤكده الاول في بحثه عن اوجه الشبه بينهما في اكثر من موضع في الرواية، ولن ينتهي بمعرفة ان روزبه هو الاسم البديل او السري لابن المقفع المقتول بسبب كتابه المنقوص.. والنقصان هو الاشارة الدالة على ما يبرر عملية البحث المحموم عن الكتاب، واشير هنا الى الصفحة ( 86 من الرواية ) ففيها ما يعزز هذه الرؤية.
ان كتاب كليلة ودمنة في مقصديات نزار شقرون ليس كتابا مهما واستثنائيا فحسب، انما هو اطروحة ايديولوجية مناهضة للسلاطين، كان المقفع فيها يقبع خلف ألسنة حيواناته المفترضة والتي بوسعها ان تقول ما لايمكن للمرء ان يبوح به درءا لمخاطر مناهضة السلاطين. وسيجري ذلك من خلال تناسل الحكايات المبتسرة التي لا تحيد عن رؤية الفكرة المركزية للرواية (يُنظر ص91 الرواية).
ايها السادة. ان المبنى الحكائي لهذه الرواية على الرغم من تفاصيله المتعددة يريد ان يخلص الى ان سقوط بغداد وسقوط غرناطة واحدٌ في نتائجه واثره البالغ على الحياة، والفرق بينهما مسافة زمنية لا اكثر، ويمكننا ان نتلمس بوضوح موجع الطريقة البربرية التي تنتهي بسقوط كل منهما ومفادها سيتخصره شقرون : بانحطاط المحتل ببغداد وعبثه وتدميره لتاريخها وحاضرها والشعور بالعار عند النصارى الاسبان ابان فضيحة محاكم التفتيش!!.
بودي ان اتحدث هنا عن الفصل الاخير من رواية دم الثور.. اعني الفصل المُتَخيَّل عن الجزء المفقود من كليلة ودمنة، والذي جاء متقنا وهو يقارب باللغة والوقائع واختيار الشخصيات (الحيوان والانسان) بنفس الطريقة التي كتب بها عبدالله ابن المقفع كتابه الشهير كليلة ودمنة. إذ تبرز قدرة الكاتب ومهاراته البلاغية في صياغة فصلٍ هو بالضرورة من خلاصات كليلة ودمنة. وعلينا دراسة ذلك على وفق القراءة الاسلوبية للتأكيد على ان «الفصل» و «الكتاب» ينطلقان من حفريات لغوية وسردية واحدة.. وكنت اتمنى على الدكتور شقرون انه اخذ اسلوب كليلة ودمنة الى شخصيات معاصرة تحاكي الواقع ولا تحاكي اجواء الكتاب القديم، مع علمي ان ذلك سيناقض فكرته المركزية في استثمار فكرة كليلة ودمنة الى الحد الذي جعل منها ضرورة من ضرورات السرد.. اقول بالتمني في ذلك بمقصديات الاضافة التي ستمكننا مقاربة كليلة ودمنة من خلال مناقشة القضايا الخلافية التي تعصف بالمنطقة العربية من مشرقها الى مغربها ، تلك المقاربة التي ستفضي الى نتائج الراهن الملتبس الذي نعيشُه على الدوام. وبالتالي فان الضرورة التي نتفهمها عند شقرون في روايته دم الثور في فصلها الاخير، انتجت لنا في نهاية المطاف روايةً وحكاياتٍ صغيرة وفرعية تنتمي الى رواية ما بعد الحداثة..
في ختام هذه الورقة بودي ان اتطرّق الى التفاتات مهمة في ادب نزار شقرون فأقول : حفلت هذه الرواية بروح فلسفية غاية في التوهج، وتضمنت عبارات فلسفية لا تتكرر كثيرا في رواياتنا العربية مثل توصيفه للزمن بوصفه حبلا لا ينقطع : نحن ننقطع عنه فحسب ، وهو يجري فينا وخارجنا (ص20). ثم تأكيده الفلسفي على تفكيك مقصديات اللون الاخضر المضمرة التي لا تكاد تُرى فيلتقطها بمهارة وهي تخص الاضرحة والمقامات على وجه التحديد :» ليس لهذا اللون من مثيلٍ خارج المقام، اخضرٌ مشبعٌ برائحة القداسةِ ، غامقٌ كعمقٍ لوني للأخضر المتنامي في كل الدنيا ، اخضرٌ ممدد كحقول ممتدةٍ منذ قرون، ورغم ذلك لا ارى غير صفرة الوجوه من حوله تبحث عن بركات وسراب امنيات».(ص21). حقيقة لا ارى غير هالة فلسفية وصوفية تسيطر على اللغة وتأخذ بيدها الى مصاف بلاغة القول واثره في الادب.. هذه واحدة من عتبات التأمل العميق في روح المكان، ارواح الامكنة تجيء في هذه الرواية على غير صورة سوى انها خاضعة لبوحها السري الذي يرى ولا يرى. حفِلت هذه الرواية بأسى شفيف يبزغ فينا كلما استدعت حاجتُنا خطابا مفعما بالمعرفة التاريخية وروحِها ومتعتِها الكبيرة. لست معنيا بحفلة مديح نقيمها لنزار شقرون بمناسبة روايته «دم الثور»، لكنني اجد ان روحا مهوّمة سيطرت عليّ وانا اقرأ هذه الرواية وجعلت مني قارئا لا يريد لهذه الرواية ان تنتهي.. ثمة مضمرات كثيرة تستدعي منّا التداول في مصائر الشخصيات التي ما أن تطل برأسها هناك، حتى تظهر تداعياتها هنا، في لعبة تبادل للأمكنة والازمنة وتداخلهما معا.. وستبزغ اسئلة كثيرة عن مصير بهيجة على سبيل المثال، بوصفها رمزا يسهب كثيرا بضياع النخبة تحت وطأة اللاجدوى، على الرغم من ان شخصية بهيجة على وجه التحديد ستستدعي اكثر من سؤال عن ذلك المصير، منها : ماذا كان سيحصل لو ان نموذج الانتلجنسيا – بهيجة – القارئ النهم في اروقة الجامعة والمتماهي مع روح الحضارة والمعرفة في مطلع الرواية، ماذا لو ظلّت دون انحطاط سري يعبث بمصير ايمن ويجعله قشة في مهب ريح، ماذا كان سيحصل لو ان بهيجة ذاتها كانت اكثر لمعانا من صورتها الكالحة التي انتهت الى مصير مجهول – منبوذ وغائب في معظم فقرات الرواية -، في حين كان القارئ يطمع في رؤية تطرحها بهيجة لإيضاح وجهات نظر متعددة تنطلق من القلق الوجودي الذي ترزح النخبة تحت وطأته منذ قرون!.
ثم لماذا تتعالق الاسئلة الراهنة بالوقائع التاريخية على هذا النحو القاسي؟ ولماذا لم يكتف الروائي في تقديم اطروحته بالغة التعقيد في فهم التاريخ وتداعيات ما آلت اليه حيواتنا بوصفها صدى لذلك التقهقر التاريخي؟ .. هي رواية اسئلة كما اسلفنا، لكنها لا تطمع بإجابات محددة وشفيفة ، هي ترنو فقط للأسئلة من حيث كونها المشغل لاتقاد فلسفة العقل من جديد في راهننا العربي الملتبس. ليس مصير بهيجة وحده من يستدعي التداول في هذه الرواية، انما مصير ايمن وطه والواسطي وغيرهم..، وصولا الى مصير سعدي نفسه وهو المنفعل بدءا بضياع المخطوطة الهائلة. تلك المخطوطة التي تقسّم الرواية الى روايتين بمعنى من المعاني، رواية التقهقر التاريخي بقراءة فلسفية ممتعة ومعاصرة، ورواية الصدى الذي يتتبّع اثر «كليلة ودمنة» ببلاغتها واهمية استدعائها من هوامش التاريخ الى متون الحياة بكل ما تحمله من نزوع لافت نحو سحر العقل واتقاده وغيابه واستحالة حضوره في راهننا الغريب.. كل هذه التداعيات انتجت رواية هائلة كتبها شقرون بوصفه مثقفا وعارفا يتخذ من الرواية فسحة للبوح اكثر مما ينتج حكاية تصطف مع روايات كثيرة لم تعمد الى احداث هزة عنيفة في وجدان قارئ العربية.. دم الثور وبابها المفقود من كليلة ودمنة، تخدش مزاج ذاكرتنا وتخلخل الساكن منها، فتجعلنا نفكر كثيرا في تداول قرينات كليلة ودمنة بفرضية نزار شقرون هذه، وسنرى الى «الف ليلة وليلة» – على سبيل المثال لا الحصر – بالنقصان ذاته، وسيصبح التراث القار والراسخ والمستقر عرضة للتفكيك واعادة النظر من خلال فن الرواية التي لم تعد عند نزار شقرون رواية بمحدداتها وفضاءاتها المعروفة فحسب، انما صارت جزءا من السوسيوثقافي الذي يحفر عميقا في وقائع التاريخ والثقافة الشعبية والاعراف والتقاليد والطقوس على وفق طرائق التفكير الجادة والممتعة في الدراسات الثقافية الحديثة، والتي لن تنتهي في هذه الرواية عند حدود اشكاليات المثاقفة وجدل الهويات وضغطه الهائل على حيواتنا ومصائرنا..

(1) دم الثور – الباب المفقود من كليلة ودمنة، رواية ، نزار شقرون ، منشورات دار الوتد،ط1، الدوحة – قطر 2019

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة