تضع الدول المتقدمة خططها بعيدة المدى للنهوض بواقع التعليم بوصفه الركيزة الاولى والمرتكز الأساس لتحقيق التنمية ، ففي اليابان مثلا، لايقتصر التعليم على إرسال الأطفال الى المدارس ، بل يسبقه تعليم منزلي واجتماعي ، و زج الأطفال بدورات استطلاعية في الشركات العامة ، اذ من المحتمل ان تكون لدى الطفل ميول معينة يكتشفها في نفسه عند زيارته لهذه الشركة أو ذاك المصنع ، فضلا عن كسر حاجز الخوف والخجل وبناء شخصية جريئة غير مهزوزة .. أما الدراسة في المدارس الابتدائية وما قبلها وما بعدها ،فوضعها مختلف في تلك البلدان ، اذ يجد التلميذ كل شيء متوفرا ، وبالتالي ينشأ في بيئة سليمة متكاملة ، وعندما يدخل الى معترك الحياة ، يدخل منتجاً معطاءً يمتلك القدرة على الإضافة والتحسين ، وهذه هي أهداف التنمية المستدامة .. ودعونا نترك الحديث عن واقع بلدان اخرى لاتشبهنا في شيء ، ونتحدث عن واقعنا والتفكير في آليات المعالجة ، ولن نشير هنا الى التعليم الاجتماعي أو التدريب في الشركات ، وان تكون الصفوف انموذجية ، وان كانت تلك الأمور من المتطلبات الأساسية للتعليم ، إنما نريد ان نجد علاجا ناجعا للواقع التربوي والتعليمي في العراق ، وواحدة من اهم المشكلات والتحديات التي تعصف بهذا الواقع ، هي النقص الحاد في الأبنية المدرسية ، اذ تشير التقديرات الى ان حاجة العراق من المدارس لاتقل عن ١٠ آلاف مدرسة في الوقت الحالي ، وهذه الفجوة قابلة للاتساع بلحاظ الزيادة السكانية التي لاتقل عن مليون إنسان سنويا ! ، ويضاف لهذه الفجوة ، حالة التقادم والتدهور الشديد في عدد غير قليل من الأبنية المدرسية ، فضلا عن مشهد المدارس الطينية الذي مازال يشخص في بعض المحافظات ..
ولا نريد أيضا ان نثير اشكالية جدلية عن مَن هو السبب وراء هذا التدهور في الواقع التربوي ، فالحديث في هذه الجزئية سيطول ، ولا طائل من ورائه ، فمَن مات فات ، وكل ما هو آتٍ آت -كما يقول قس بن ساعدة- إنما السؤال ، كيف يمكننا معالجة المشكلة ، وتوفير الأبنية المدرسية الكافية في عموم البلاد ؟.. هل الحكومة قادرة وحدها على التصدي للمشكلة ؟.. طبعا ، ينبغي ان تكون قادرة فهذه من مهامها الأساسية ، ولكن في ضوء المعطيات الموجودة ، فان الإمكانات المتوفرة لدى الحكومة مع اتساع الفجوة ، غير كافية في بحر ثلاث أو حتى خمس سنوات لتجسير الفجوة ، إذا كان معدل البناء ينتج ١٠٠٠ مدرسة سنويا ، وهنا سنكون بحاجة الى ١٠ سنوات لمعالجة الواقع بوضعه الحالي ، من دون الأخذ بنظر الاعتبار ان ١٠ ملايين إنسان سيأتون الى سطح العراق !.. وهنا فان المشكلة ستتفاقم بنحو مرعب إذن ما الحل ؟ .. الحل يكمن في عدة مسارات ، المسار الأول يأتي من خلال تخصيص أموال جيدة ضمن الموازنات السنوية وتكون مسماة (لبناء المدارس) حصرا ، لكي لايتم تحويلها الى مفاصل اخرى ، والمسار الثاني وهو ثيمة هذا المقال ، ان يتم إطلاق حملة وطنية لبناء المدارس تشترك فيها جميع مفاصل الدولة (السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والحكومات المحلية في المحافظات والاتحادات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والفعاليات الاجتماعية ، والقطاع الخاص.. إلخ) بحيث تتولى كل جهة من هذه الجهات اقتطاع جزء من تخصيصاتها أو ايراداتها السنوية وتخصصها لبناء عدة مدارس ، على ان لا تتوقف هذه الحملة عند سنة واحدة ، ولا مانع من ان يتم اختيار اسماء المدارس المشيدة من قبل الجهات التي قامت بتنفيذها ، كما ان العمل ينبغي ان لايتوقف عند البناء وحسب ، إنما ضرورة ان يكون البناء مع التجهيز الكامل للمدرسة ، ومن الضروري جدا ان يسبق هذه الحملة الوطنية ، حملة توعوية بأهمية المبادرة ودورها في حل المشكلة ، من قبل المرجعيات الدينية أو وسائل الاعلام المختلفة ، فلو قامت كل وزارة أو جهة غير مرتبطة بوزارة او محافظة أو اتحاد أو نقابة أو أي فعالية اخرى ببناء مدرسة واحدة الى ثلاث مدارس ، من خلال تحويل جزء من تخصيصاتها أو إيراداتها الى الصندوق الذي سيتم تأسيسه لهذا الغرض وتحت مسمى الصندوق العراقي لتمويل الحملة الوطنية لبناء المدارس ، أو أي مسمى آخر ، ويستقبل هذا الصندوق أيضا المنح والقروض الدولية المقدمة للعراق لأغراض بناء المدارس ، لاختلف الواقع كثيرا .
اعتقد ان هذا المقترح لو جرى تفعيله ، فسيسهم في التخفيف من المشكلة، التي لم يعد بالإمكان غض الطرف عنها ، بعد ان اصبحت المدرسة الواحدة ثلاث مدارس ! ويجلس في الصف الواحد اكثر من ٦٠ طالبا في بعض المدارس، فأي مستوى تعليمي ننتظره في ظل ظروف بهذا المستوى من القسوة ؟.. الواقع التربوي يحتاج الى هزة عنيفة لانتشاله من ما هو فيه .
عبدالزهرة محمد الهنداوي