لابد من وضع علامات استفهام كبيرة وكثيرة امام ثقافات العالم، لا بل امام تاريخ ثقافة كوكب الارض برمته وقد دخل الان في دائرة الشك: الفلسفات القديمة والحديثة، المعارف والافكار والمعتقدات والاديان معظمها جعلت الانسان سيد الكون وخليفة الله على الارض، بضمنها فلسفات الالحاد والوجودية التي اعطت الانسان سلطة قيادة العالم، وليس آخرها مقولة نيتشه الشهيرة: مات الله فتربع ايها الانسان على العرش.
لكن بعض الاديان القليلة والنادرة كشفت عدم اتزان عقل الانسان وتقلباته وميوله الاستحواذية اتجاه من يشاركه الحياة، هذه اديان صامتة مثل الشجرة لا تثير عواصف غبارية ولا تخلف وراءها ضحايا (شهداء) ولا زوابع روحية، لذلك قيدت الانسان وارغمته على احترام حيوات النبات والحشرات والحيوان، واحترام حتى ما يسمى بالجماد من جبال وانهار وصحارى، اذ لا يوجد شيء ميت ولا يوجد فناء وعدم، الجميع يؤدي دوره في تناغم خلية لرفد طاقة الكون من حبة الرمل الى اكبر مجرة، حياة النملة ليست اقل اهمية من حياة الانسان وضرورة وجود العنكبوت تساوي ضرورة وجود الفيل، لا توجد مراتب عليا ومنازل دنيا للمخلوقات، انهارت نظريات الصراع والتفوق والبقاء للاقوى حتى صارت مجرد اساطير تضاف الى اساطير الحضارات البدائية الاولى.
بقيت غريزة الحياة طلسما تدور حوله مغامرات العقل الكبرى، وبقي السؤال الوجودي عملاقا فشل الجميع في تسلقه وفك رموزه.
لو القينا نظرة سريعة على تاريخ قيادة الانسان للعالم منذ تسلطه على الارض وحتى اليوم، فماذا سنجد والى اين قد وصل؟
اهلك الانسان ملايين الانواع من النباتات واجناس الحيوانات والحشرات، لوث الماء والهواء، انتج امراضا غامضة تستعصي على الشفاء، زرع آفات الجوع والفقر وهي تتفاقم يوما بعد آخر، ابتكر لعبة التكنولوجيا من دون ان يخطر في باله، انها ستكون افتك سرطان للطبيعة ولايزال يلعب بها مفتونا كصبي مدلل منفلت طائش بعدما ارتكب الانسان الاف المجازر بحق الحياة واحكم سيطرته على ما تبقى من المخلوقات، التفت الى تدمير نفسه في حروب لا اول لها ولا آخر، وتعيش البشرية اليوم الفصل الاخير من تراجيديا قتل الحياة باندلاع حرب نووية من خلال خطأ تقني صغير او خلل في ازرار التكنولوجيا العسكرية.
هل ان ثقافة الانسان (خليفة الله على الارض وسيد الكون) مصدرها نفس مظلمة وعقل اعمى يوسوس: ان لم تجد من تلدغه إلدغ نفسك؟
اذن لابد هنا من قلب منطق العقل والسباحة ضد تيار التفكير السائد لوضع نهاية عصر الانسان وخلعه نهائيا من عرش خلافة الكون، والتأكد من قناعة مساواته مع بقية الحيوات على الارض، فقد اثبت الانسان لنفسه ولجميع المخلوقات: انه كائن ارعن احمق وغبي، وان تاريخ مسيرته التي يتفاخر بها هي مسيرة جرائم متسلسلة من دمار وتخريب، وان حضارته حضارة فشل صاخب جعلته واقفا يترنح على حافة سقوطه الاخير.
لا يقنعنا احد اليوم بتلك الثنائيات العاطلة عن العمل والمحلقة خارج فضاء الحياة، ثنائيات الخير/ الشر، النور/الظلام، الحق/الباطل، الايمان/الكفر، الى آخر موديلات هذه الثنائيات ما لم يع الانسان بذاته انه متخلف وجاهل، ويدرك بشاعة ما اقترفت يداه، ويكتشف انه ليس اكثر من خلية لا ترى بالعين المجردة في جسد هذا الكون، اذا لم يع ذلك فلن تنجو البشرية من مصيرها المرعب، فهل يعي الانسان حقا خطر ثقافته اليوم؟
أساطير التكنولوجيا
التعليقات مغلقة