عندما يموت الشاعر العالم كله يبكي ..
سمير خليل
فارس آخر يترجل عن صهوة الحياة، الابداع، والشعر.
فوزي كريم اغمض عينيه وراح في اغفاءته الاخيرة هناك في مدينة الضباب، لفه الموت البارد في غفلة من الزمن، تبخر حلمه المتأرجح بين الوطن وغربته الموحشة، الرجل الذي يتنفس شعرا مغمسا بألوان مبهجة وموسيقى حالمة، غافله الموت وأطفأ جذوته ليعلن رحيله، فوزي كريم الهادئ، المتأمل، الحالم، هكذا يرحل دون جلبة، بعيدا عنا قريبا من القلب، رحل فوزي كريم الجمعة الفائتة في لندن متأبطا شعره واحلامه وعشقه وآماله واحباطاته ،74 عاما هي سنوات عمره وخزين حياته.
الشاعرة العمانية عهود الاشخرية كانت قد كتبت مرة عن موت الشاعر في جريدة الرؤية العمانية : «عندما يموت الشاعر، يبكيه كل أصدقائه، كلهم يبكونه، عندما يموت الشاعر العالم كله يبكي»، هذا مقطع من إحدى أغنيات المغني الفرنسي (جيلبير بيكو)، أغنية تتحدث عن موت الشعراء وما خلف هذا الشيء من إنكار لفكرة رحيلهم، وإن كان لابدّ من ذلك فإنّ قصائدهم تنبت في الحقول، هذه الاغنية وغيرها من الأغاني والقصائد التي ترثي الشعراء، كل الشعراء وليس شاعرًا بعينه تمنح العالم لفتة حقيقية لعظمة وجود الشاعر الحقيقي عليها، ربما وجود الشاعر لا يُقلل وجود المآسي لكنه يجعل الحياة ممكنة، حين يظهر لنا جمالية الوجود باللغة، لا يمكنني هنا إلا أن أذكر «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، حتى يتضح ما أعنيه عن قدرة الشاعر على تقليص كمية البؤس وأخذها إلى لغة الجمال.
وحين نقرأ في ورقيات الشاعر، وما دون عنه سواء في الصحف الورقية او مواقع الانترنت، نجد ان الفقيد كريم ولد في بغداد عام 1945، أكمل دراسته الجامعية فيها ثم هاجر على الأثر إلى بيروت عام 1969. عاد إلى بغداد عام 1972 ثم غادرها ثانية عام 1978 إلى لندن موطن إقامته الأخير.
منذ مرحلة شبابه الأول كان فوزي كريم لا يجد مفارقة في اعتماد الموروث والحداثة (الماضي والحاضر) مصدرين أساسيين لثقافته وقصيدته، الموروث العربي يمده بالإحساس باللغة كمعقل لكيانه الروحي ويمده بالإحساس بالتاريخ والتواصل والثقافة الحديثة نافذة يطل منها على اللامحدود، الإحساس بالمنفى عميق لديه ولكنه لم يكن بمنأى عن رائحة احتراقاته ونزيفه ، أشعره معترك الأفكار العمياء بالوحدة والتطلع الأمر الذي ميز قصيدته، في قصائد مجموعته الأولى «حيث تبدأ الأشياء» 1968 نجد ذلك التطلع يجعل حزن تلك الوحدة شفيفاً وغنائياً، منفاه الاختياري الأول في بيروت عمق تلك الوحدة وذلك التطلع أعطاهما طبقة صوت محتجة وغنائية مصوّتة.
وضع قصائد بيروت في مجموعة «أرفع يدي احتجاجاً»، وصدرت عن دار العودة عام1973. السنوات التي قضاها في بغداد بين 72-1978، عمل خلالها في مجلة الف باء، المجلة الأكبر في البلاد، وكتب الكثير من المقالات في نقد القصة، لكنه في وقتها، لم يقترب من نقد الشعر، سيما والعراق كان مدججا بالشعراء حينها، وكان اغلبهم ان لم نقل جميعهم يبحث في التجربة الشعرية، لكن قلة منهم من تناول الشعر بالنقد، وتلك الفترة، علمته الكثير سواء في كتابة القصيدة ام في القصة.
ليس هذا حسب، فثمة من اعجب كثيرا بفوزي كريم، لأنه لم يكن أيديولوجيا، تعلم أن القصيدة إنما تولد من صراع الشاعر مع ذاته لا مع الآخر، ترك كتباً أخرى أصدرها في بغداد: « من الغربة حتى وعي الغربة» (وزارة الثقافة،1972)، «أدمون صبري» 1975 (وزارة الثقافة) و «جنون من حجر» (وزارة الثقافة 1977)، ثم هاجر إلى منفاه لندن اواخر عام 1978، في سنوات هذا المنفى الطويلة دخل الشاعر رحاب الإنكليزية أدباً وثقافةً عامة كما وقع على ضالته التي كانت مفقودة في حياته العربية السابقة وهي الموسيقى، بدأ يعوض عما افتقده في تأسيس مكتبته الشخصية من الموسيقى الكلاسيكية وطوال ربع قرن لم ينقطع يوماً عن الإصغاء والقراءة والكتابة في الشأن الموسيقي ولقد انتفعت قصيدته من هذا المصدر الموسيقي الذي يعتبره الشاعر أسمى وأعمق مصادر البناء في النص الشعري، ولأنه يمارس فن الرسم بذات الشغف ولكن ليس بذات التواصل فقد وضع كتابه «الفضائل الموسيقية» في أجزاء أربعة: عن «الموسيقى والشعر» (صدر عن دار المدى 2002)، و»الموسيقى والرسم»، «الموسيقى والفلسفة» و»الموسيقى والتصوف»، (قيد الإعداد للنشر).
في الشعر أصدر اثناء اقامته في لندن: «عثرات الطائر» (المؤسسة العربية 1983)، «مكائد آدم» (دار صحارى1991)، «لا نرث الأرض» (دار الريس 1988)، «قارات الأوبئة» (دار المدى 1995)، «قصائد مختارة»(الهيئة المصرية 1995)، «قصائد من جزيرة مهجورة» (نشرت ضمن الأعمال ال شعرية2000 التي صدرت في جزأين عن دار المدى عام 2001)، «السنوات اللقيطة» (دار المدى 2003)، «آخر ال غجر2005)، «ليلُ أبي العلاء». وفي النثر النقدي أصدر، بعد قصص «مدينة النحاس» (دار المدى 1995)، كتاب « ثياب الامبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة» (المدى 2000 )، «العودة إلى گاردينيا» (المدى 2004)، كتاب «يوميات نهاية الكابوس» (المدى 2004)، كتاب «تهافت الستينيين: أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي» (المدى 2006)، سعيه النقدي لتجريد الشعر العربي مما علق فيه من شوائب الشكلانية والميل العضلي في موروثه وحداثته وما استحوذ عليه من قوى الأفكار المتعالية والعقائدية، حفزه لإصدار مجلته الفصلية «اللحظة الشعرية».
وفور ورود نبأ وفاته رثاه عديد الادباء والمفكرين والجهات الحكومية في العراق والعالم العربي.