بنات عشتروت !

لا أعلم على وجه اليقين كم ينفق العراق على مشترياته من المواد الكمالية وغير الضرورية، وكم من وارداته النفطية يبددها على الأجهزة الألكترونية والمنزلية. لكن من المؤكد أن الأرقام هائلة ومخيفة. وجميع هذه المشتريات قابلة للتلف، آيلة للاندثار. بل إن كثيراً منها يمكن الاستغناء عنه أو تأجيله، أو استبداله بآخر محلي الصنع.
ولكن أحداً في هذه البلاد لم يفكر منذ أمد طويل بالحصول على العقول من الخارج، وزجها في الإدارة الحكومية عن طريق الإعارة أو التعاقد أو التوطين. مع أن «بضاعة» كهذه ثمينة ومنتجة ومربحة، ولا تكلف إلا القليل من المال.
وقد انتبهت الدولة العراقية في بداية تأسيسها عام 1921 إلى هذه الناحية، فأولتها اهتماماً فائقاً. وتعاقدت مع الكثير من المعلمين والأطباء والمهندسين ورجال القانون والجيش وأساتذة الجامعات وغيرهم من ذوي الخبرات.
بل إن هذه الدولة (استعارت) ملكها من إحدى الدول المجاورة، ولم تر في ذلك بأساً. وجلبت وزراء ومستشارين ومدراء عامين للعمل في قمة الهرم الحكومي، ولم تلاق هذه الخطوة اعتراضاً. صحيح أن بعض الأصوات تعالت هنا وهناك من طامعين في هذه المناصب، أو «مشاغبين» لا يحتكمون إلى منطق. لكن عامة الناس كانوا فرحين بالأمر، لعلمهم أن هؤلاء سيبددون سحابة الجهل التي خيمت عليهم قروناً عديدة.
ومن الطريف أن البعض اعترض على التعاقد مع معلمات لبنانيات، ارتضين تحمل مشقة السفر عبر الصحراء الموحشة والقدوم للعراق، للعمل في مدارس البنات. فأطلق عليهن اسم بنات عشتروت (أي عشتار بالفينيقية) للإساءة إليهن. ولم تكن في العراق آنذاك معلمة واحدة يمكن أن يطلق عليها هذا الاسم بحق!
وقد ازداد عدد المتعاقدين الذين وفدوا من الخارج باضطراد مع نمو التعليم وزيادة عدد السكان. حتى إذا ما نشأ جيل جديد متعلم من العراقيين، تناقص عددهم وانتفت الحاجة إليهم.
والواقع أنه كان بين هؤلاء عدد كبير من الخبراء والعلماء والأدباء والتربويين والفنانين. وهم الذين أذكوا نزعة الابتكار عند العراقيين، بعدما أصابها الخمول لقرون عديدة. وهم الذين أوقدوا شعلة النهضة في العراق التي حدثت في الربع الثالث من القرن العشرين. وكان بعضهم رسل الحداثة في الشعر والفن والثقافة والحياة. وأسماء مثل ساطع الحصري وزكي مبارك والسنهوري وأحمد حسن الزيات وجبرا ابراهيم جبرا .. خير دليل على ما نقول!
ولأن كل شئ عاد إلى وضع السكون، فإن دفعة جديدة منهم، ستكون حافزاً على الإبداع، دافعاً إلى الإنتاج. ولا يتذرعن أحد بوفرة العقول في العراق، فما في أوربا والولايات المتحدة أكثر بكثير مما فيه. وهذه الدول تستقبل كل عام مئات الألوف من المهاجرين، من مختلف أرجاء العالم. لأنها تعلم أن الطاقات البشرية في أي بلد من البلدان عرضة للنضوب، إذا لم تستعن بدماء جديدة، قادرة على إعادة الحيوية إليها، بنفقات قليلة ووقت قصير.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة