مع كل زوبعة في فنجان الفيسبوك وباقي مواقع التواصل الاجتماعي؛ تتأكد لي حقيقة فقداننا (ومن شتى الشرنقات العقائدية الضيقة) لأحدى أكثر الخصائص التي ارتقت بسلالات بني آدم أي (الاصغاء). وسط طفح من الصراخ والشتائم واللعنات وما توارثناه من ترسانة شيطنة الآخر المختلف، تنزوي منكمشة الآراء الرصينة والمسؤولة والعابرة في حياتنا الواقعية منها أو الافتراضية. مشهد غرائبي من الصخب والضجيج والخطابات الدخانية المتخصصة بإعادة انتاج غيبوبتنا المبجلة، حيث الجميع يعرف كل شيء عن كل شيء، لا أحد منهم يلتفت لما قاله سقراط: (كل ما أعرفه.. انني لا أعرف شيئاً). هذا الطفح من الثقة الزائفة والاعتداد بالآراء الضحلة واشباه المعلومات المتنافرة وطبيعة الأشياء، هو ما يميز المخلوقات التي ما زالت عاجزة عن معرفة حقيقة فقدانها لنعمة الاصغاء، والتي تقف خلف ما انحدرنا اليه من بؤس وركود واجابات وكبسولات جاهزة لكل زمان ومكان. وقد كشفت مواقع التواصل الحديثة وبنحو خاص في الفيسبوك عن ذلك بوضوح تام، حيث غالبية زبائنه العراقيين والمتجحفلين معهم بهذه “النعمة المهجورة” ليس لا يصغون وحسب بل لا يريدون التعرف الى بؤس وضحالة المعرفة والمعلومات التي يعتمدونها في فتوحاتهم الفيسبوكية الظافرة.
ما يجري على تضاريس العالم الازرق (الالكتروني) ومواقعه ومنصاته، يعكس حقيقة امكاناتنا في العالم الواقعي، وما استعمالنا البائس لهذه التقنيات الراقية، الا دليل على ما نحن عليه مادياً وقيمياً، حيث المعايير المقلوبة ومنظومة القيم العابثة التي تشرع الأبواب لشتى أنواع التجاوزات والانتهاكات لبعضنا البعض الآخر، من دون الالتفات الى منزلة ومكانة الأشخاص وقيمتهم المعنوية والمعرفية والعلمية، وقد اطلعت شخصياً على الكثير من ذلك، حيث يتم التجاوز على شخصيات اجتماعية ودينية وعلمية بارزة من قبل نكرات لم تعرف سيرتهم الشخصية معنى المعرفة والاصغاء يوماً. كما لا يقتصر الأمر على ذلك الجاهل وتأثيره المحدود، بل الأشد فتكاً نجده عند اشباه المتعلمين والمثقفين والسياسيين والإعلاميين والمنتسبين زوراً وبهتاناً لنادي (الانتلجينسيا)، ممن لا يكلفون أنفسهم في تمحيص ما يجترونه من ديباجات وسرديات وسكراب معطيات واعتقادات، لا تصمد اغلبها أمام بديهيات عالم صار فيه “عمر المعلومة أقصر من عمر الفراشة”. عقول وارواح متخمة بالقيم العدوانية وكراهة الآخر المختلف، ستبقى عاجزة عن فك طلاسم وضعها الراهن وعلل تصدرهم من دون خلق الله لقائمة البلدان الأكثر تخلفاً وفشلاً وفساداً، في عالم حولته الثورات العلمية والقيمية والاستثمار الامثل بنعمة الاصغاء الى قرية.
في الوقت الذي تطوي فيه المجتمعات والدول التي اكرمتها الأقدار بالالتفات لمثل هذه النعم؛ المراحل التاريخية من الحداثة الى ما بعدها، تتخبط مضاربنا المنحوسة وسط مناخات وشروط عصور ما قبل المغفور له كوبرنيكوس. ما زالت قوافل القرن السابع الهجري من السدنة والاوصياء تبسط سطوتها على الغالبية العظمى ممن يتوهمون أنفسهم انهم “مواطنون” من دون الالتفات الى شروط هذا العنوان الحضاري والذي اكتسبته سلالات بني آدم بعد مشوار طويل من الكفاح ضد محاكم التفتيش والخنوع للسدنة وأعداء استعمال الانسان لمواهبه واستعداداته الفطرية. ما جرى في العراق زمن النظام المباد، يتواصل اليوم خلف واجهات ومبررات جديدة، وهذا يتنافر تماماً وطبيعة العراقيين واستعداداتهم الفطرية وشغفهم في الانتصار للعقلانية والعدل الاجتماعي والتي أشار اليها الجاحظ قبل أكثر من الف عام…
جمال جصاني