مالك المطلبي.. التفكير النقدي باتجاهات متعددة

علي حسن الفواز

حينما تحدث غادامير عن اللغة واصفا إياها ب( الكائن الوحيد القابل للفهم) فإنه كان يقصد قوة فهم الكينونة وفاعليتها في التوصيف، وفي التدليل، وفي حيازة الطاقة والقوة المُحفِّزة على البحث عن المعنى، إذ لامعنى للأشياء خارج اللغة، وبما أنّ المعرفة والعلم والنقد، وكلها مجالات مفاهيمية- تكتسب قوتها عبر اللغة، فإنها ليست بعيدة عن سياق التعاطي مع موضوعة المعنى الذي تقترحه اللغة، عبر تمثلاتها، وعبر حمولاتها الرمزية، أو عبر قوتها السيميولوجية، ومن أجل أنْ تكون مصدرا لتوليد مزيدٍ من الصور والافكار والدلالات والعلاقات المشغولة بتأليف وتركيب ذلك المعنى ظاهرا أو تأويلا..
مالك المطلبي من أكثر مثقفينا وباحثينا اهتماما بالفكر اللغوي، إذ انشغل بالجانب التأسيسي لهذا الفكر، بوصفه أفقا معرفيا، ونوعا من الممارسة التي تدخل في سياق معرفة المبنى الشكلاني الصرفي للغة، وفي سياق تشكّلاتها الوظيفية في الدرس الثقافي، والذي يعني التواصل، والانفتاح على مجالات معرفية واسعة، حيث تتعزز عبرها أهمية (اللغة) في سياقها التعبيري، وفي سياقها الاستعاري والدلالي، وبإتجاه اقامة الصفقات الثقافية، وفي ايجاد شبكة واسعة من الرموز التي تعزز التداول المعرفي والدلالي للثقافة.
يحاول المطلبي ومنذ سنوات التخلّص من صورة (المثقف الأدبي) ومن لعبة المعاطف التي تورطت بها الثقافة العراقية منذ عقود، لكنّ هذه المحاولة تظل غير بريئة، لأنها تستدعي دائما تجديدا في الأدوات المعرفية، وفي مستويات النظر للغة داخل الأنظمة الثقافية، على مستوى الفهم النظري، أو على مستوى المنهج، إذ يتعين على هذه المستويات أنْ تكون أكثر تمثيلا لموضوعات الجدّة والحداثة، وأكثر تعبيرا عن وظيفة الثقافة في مواجهة الاشكاليات المعرفية من جانب، وأنْ تملك القدرة على اعادة قراءة (الموضوع الأدبي) من جانب آخر، وعبر تقانات ووسائط ومفاهيم قريبة من الدرس الثقافي، ومن عنايته بالمُضمر، واليومي، المهمل، ومن خلال مقاربات تدرس الثقافة بوصفها الانتاجي، وتدرس الأدبي بوصفه التمثيلي، وهي مسائل حاول المطلبي تقعيدها في مشغله النقدي، وعبر قراءاته العميقة لظواهر أدبية معروفة بدءا من قراءاته ل(محمد خضير) و(نازك الملائكة) و(بدر شاكر السياب) و(عبد الوهاب البياتي) و(فوزي كريم) وانتهاء قراءاته لما يسميه ب (ذاكرة الكتابة) و(حفريات في اللاوعي المهمل) وهي مجالات تُعنى بالتشكّلات الأولى للوعي، وللتمدّن، وللكينونة الكاشفة، وعبر مايستعيده منها من خلال اللغة، بوصف أنّ اللغة هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن يتمثّل عبرها الكائن لوجوده.

الشاعر والرائي
تبدو صورة الشاعر في(ذاكرة) المطلبي غائمة، وغير واضحة الملامح، فرغم انتمائه(الجيلي) الى مايُسمى ب(جيل الستينيات) إلّا أنّ هوية قصيدته ظلت تعكس طبيعة وعيه ومزاجه الشخصي، فهي بعيدة عن هوس (جيله) بالتجريب، والتمرد، والتفكير الصاخب عبر الاشكال الشعرية، وقريبة من الانشغال بلعبة الافكار والصور، وهي عتبات مُبكرة لوعي الكتابة الشعرية بوصفها نوعا من(اللعب عبر اللغة) كما يسميها فيتغنشتاين، حيث طاقة التخيّل، والتحليل، وتنشيط نظرية أفعال الكلام، وحيث(ايتيقيا المناقشة) التي سعى هابرماز الى تكريسها في سياق نقده الفلسفي، وتغذيته لمرجعيات الفعل التواصلي عبر اللغة وعبر رموزها المستعملة من قبل المثقف الفرد، حيث ينزع هذا الفرد( جانبا من ذاتيته، ويدمجها في مجهود جماعي قائم على التواصل والتفاهم، وهذا التفاهم لايمكن تحقيقه إلّا من خلا اتفاق مؤسَس على اساس عقلاني) كما يقول هابرماز
المثقف الرائي في مشروع مالك المطلبي هو برايغما وجودية للمثقف الفرد، والذي يتكفل بصياغة الأفق الثقافي للمعرفة وللإداء اللغوي، وبما يجعل تطابق الفعل اللغوي مع الواقع يمرّ عبر جملة من الرموز والشفرات والمعاني، والتي عمل المطلبي على توسيع مدياتها الاجرائية في نظرته للأدب، واللغة، وحتى للأفكار العميقة الغور في لاوعي النصوص، والظواهر، ولعل كتابيه(الثوب الجسد/تحليل لشعر السياب) و(وهم الحدس في النظرية الشعرية) يكشفان عن اهتمام المطلبي بدراسة العلائق مابين الشعري والسسيميولجي، حيث البحث عن اشتغال هذه العلائق، ومقاربتها عبر اللغة، والفلسفة، وعبر تمثلاتها في الجسد بوصفه الجنسوي، والمعيش بوصفه الفينومولوجي في اللغة، فالجسد هو البيت والقميص والذاكرة، والمعيش بوصفه الظاهراتي الذي يستدعي من خلال الوعي به اللذة، والفكرة والقصد.
لقد حاول المطلبي أنْ يؤصِّل هذا الفهم في مشروعه الثقافي، وعبر عنايته المُبكّرة بالدرس اللساني وبالقيمة الدلالية له، بوصفه مجالا لتسريب المممنوع والمسكوت عنه، وعبر تقانات تقوم على تواطىء استعاري مابين اللغة وحمولاتها، ودراسته للسياب ونازك الملائكة بشكلٍ خاص هي استئناف معرفي لساني لمثل تلك المقاربات السيميولوجية، إذ تحوّل السياب الى رمز للدرس العلائقي بين الشعر والذات، والقميص المثيولوجي تحوّل الى مجال دلالي للحفر في البنيات العميقة لقصيدة السياب، ولتحولات الشاعر داخلها.

الحفر في اللاوعي الثقافي..
قد يبدو المطلبي في الظاهر دارسا نحويا وبلاغيا في اللغة، وأنّ منطلقاته البحثية لاتخرج كثيرا عن سياقات ذلك الدرس، لكنّ توسّع اهتمامات المطلبي للدرس المعرفي اللساني عند دوسوسير، وبيرس، وحتى عند بارت في مرحلة لاحقة، أعطته أفقا للتأسيس الثقافي/ المعرفي لعلاقة أطروحات دوسوسير في الدال والمدلول، وفي دراسته لبيرس ولاطروحاته حول العلامة والشفرة الايقونة، حيث وجد في الفضاء الأدبي العميق في(اللاوعي الثقافي العراقي) مجاله الشخصي لتحليل النص والخطاب، لاسيما على مستوى تداوليته الشعرية والسردية، وتعرية هذا اللاوعي المسكون برهاب السلطة، والدين، والايديولوجيا، والعصاب النفسي، فما عاد المجال النقدي الذي يشتغل به المطلبي ذا هاجسٍ أدبي عمومي، أو كما هو مُكرّس في أطروحات(النقد الادبي) بقدر ما استغرقته أطروحات الدرس البنيوي، ومابعده، ومقاربات التفكيك والتحليل، والتي تستدعي الفلسفي والانثربولوجي والسيمولوجي، من منطلق أنّ الظاهرة النصية هي ظاهرة لسانية، مثلما هي ظاهرة تاريخية..
وحتى كتابه الانثربولوجي(حفريات في اللاوعي المهمل) ليس بعيدا عن تلك المقاربات، فهو ليس نوعا من(كوميديا الاخطاء) كما سمّته فاطمة المحسن، بقدر ماهو مقاربة انثربولوجية في التمثلات الرمزية لتحوّل الظواهر الاجتماعية والثقافية واللسانية في المكان المُهمل، فالمطلبي يتحوّل الى(حكواتي) يتقصى روح المكان، عبر معيش كائناته في وحدات اجتماعية ولسانية ورمزية ودينية ريفية مُغلقة، وعبر علاقتهم بالآخر الذي يمثّل صدمة للحكواتي المهووس بكشف ماهو عميق وسري في المكان، فحكاية(تأسيس البنطلون) وحكاية المعلم، ووزير الداخلية الذي يزور المدرسة، وصلاح ابو سيف الذي يختاره كومبارسا في فيلم»عنتر وعبلة» شخصيات تشكّل أول علامات الصدمة المعرفية، والتي تتضخم في مراحل لاحقة عبر تضخم فكرة المعيش ذاتها، حيث تتضخم المدينة، والشارع، والقاموس، وفكرة الزي، واللغة، والتي تشتبك فيها مرجعيات المطلبي اللسانية مع مايستعيده من صور رمزية لحاناتها، ولياليها، وللشارع ذي المقاهي الستة كما يسميها، ومن أسماءٍ لمثقفيها اللامعين- حسين مردان، عبد الامير الحصيري، موسى كريدي- وهو ماورد عبر اشتغاله في نصّه الجميل(غريزة المقهى) ( ما أقوم به الآن لا ينتمي إلا لعلم الآثار الذهني، الذي يحاول تفكيك «دالّ» المقهى القديم، المكّون من آلآف الخطى القصيرة التي امّحت في فراغ الكنبات، متحدة بملايين ضربات خرز المسبحات، بملايين الكلمات التي تكون دائما، أرباع جمل، وبالزجاج الممسوح، أبدا بالفضول المتبادل بين الجالس والسائر، بالمشاريع الأدبية التي لاتنمو بغريزة الشرب. نعم للمقهى غريزة، شأنه شأن الحيوان، ولكنها غريزة وحيدة وليست منظومة غرائز. إنها غريزة الشرب)
قراءة أو شهادة المطلبي على الزمن الثقافي، هي شهادة على الزمن السياسي، وعلى الزمن (الانثربولوجي) عبر التحولات العميقة التي يتعرّض لها المكان/ المدينة البغدادية، حيث تكون الحانة والمقهى هي المجال البديل، والتحويلي، والذي تتسع فيه (ايتيقيا المناقشة) وهواجس الحرية، وحتى الحلم بالثورة والبحث عن الذات التي تختزل وجودها عبر قاموس(اللغة) وعبر هوية المكان المعرفي/ الجامعة…

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة