طقم

ألكسندر خورغين
ترجمة محمود إبراهيم الحسن

يعيش العجوز وحيدًا، ومنذ فترة طويلة، طويلة جدًا.
كانت عنده قطة، وماتت بعد أن شاخت، وحدث هذا منذ وقت طويل. وكانت زوجته معه قبل ذلك، وتوفيت قبل القطة بعشر سنوات، ولم يكن عنده أحد غير زوجته وقطته. بعبارة أدّق: لم يبق لديه أحد لأنه بقي حيًا بعد موتهم كلهم، كلهم بلا استثناء بمن فيهم إخوته وأخواته، وولده المسن، وربما حتى حفيده الذي قد يكون يعيش في مكان ما في هذا العالم، لكنه اختفى، وانقطعت أخباره.
العجوز ينتظر الشتاء على كل حال، وهو لا يعرف هل سيعيش ويشهد الشتاء أم لا. كان يخشى الشتاء بسبب البرد، وشعوره بالبرد مضاعف، فالشيخوخة هي الفترة الأبرد في حياة الإنسان، وهي الأطول أيضًا.
لا يتذكر نفسه إلا وهو مسن، ويشعر بالبرد القارس. لا يذكر أنه كان شابًا، وكيف كانت حياته في شبابه، ولم يحاول أن يتذكر. كان محاطًا في شبابه بمجموعة من أناس مختلفين دخلوا حياته، لكنهم عبروا، واختفوا نهائيًا. ولماذا يخرجهم من حياته؟ حقًا لماذا؟ وكيف يتذكر نفسه بدونهم؟ لم يكن يعيش في الفراغ وحيدًا، كما هو حاله الآن.
الفراغ هو التعبير الصحيح والملائم. طبعًا لم يتشكل الفراغ عند العجوز دفعة واحدة، لكن بالتدريج. عزله الفراغ عن العالم الخارجي، مع أن الانفصال عن العالم الخارجي مستحيل. على سبيل المثال كيف يمكنك أن تنعزل عن صفارة الإسعاف إذا كنت تعيش بالقرب من مشفى كبير عند مفرق الطريق حيث إشارات المرور؟ كل سيارات الإسعاف التي تنقل مرضى
«لا يتذكر نفسه إلا وهو مسن، ويشعر بالبرد القارس. لا يذكر أنه كان شابًا، وكيف كانت حياته في شبابه، ولم يحاول أن يتذكر» بحالات حرجة ترفع صوت الصفارة كي يفسحوا لها الطريق عندما تكون الإشارة حمراء.
«لو أنني عشت بالقرب من المقبرة – فكر العجوز- على الأقل لا أحد يفتح الصفارات هناك. الموسيقى الكنائسية هي أيضًا ليست هدية لك. هم يعزفون الموسيقى نفسها في كل الجنازات. لا رقصة الفراشات، ولا رقصة بوستون، فقط نشيد شوبينا».
ومع ذلك أدرك العجوز لا إراديًا عندما سمع الصفارة أن هناك شخصًا في وضع أكثر سوءًا منه. في الحقيقة لم يكن وضعه سيئًا، ربما وضعه ليس جيدًا، لكنه ليس سيئًا.
استلقى على السرير حيث كما يقال تلاشت قواه، أي أنه استطاع أن ينهض من السرير، وأن يجلس، فالقوة اللازمة للقيام بهذا لا تزال موجودة لديه. حتى أنه يستطيع، إذا أراد، أن يتجول في أرجاء البيت، ببطء، مستندًا إلى الحائط، في النهاية يستطيع، لكن لماذا سيفعل ذلك؟ هو لا يجد سببًا أو ضرورة للقيام بذلك، لذلك لم ينهض من السرير.
ابنته، وقبل أن تتزوج، وتسافر إلى زوجها في ألمانيا دبرت له رعاية تقدمها له شركة خاصة، على أن يصبح بيته ملكًا لتلك الشركة بعد وفاته، والشركة تتصرف بمعاشه التقاعدي أيضًا، تصرفه على معيشته وصحته.
في الحقيقة هناك شائعات كثيرة حول هذه الشركات. يقول بعضهم إن المسنين يوقعون العقود، وسرعان ما يموتون. يموتون، لكن بسرعة.
أقنعته ابنته بأنها تحققت من الشركة، واختبرتها، ووجدت أنها شركة نزيهة، وطوال فترة عملها لم تتسبب بموت أحد، ولا توجد أي شكوى ضدها من عملائها في كل الهيئات والمؤسسات.
اتضح أن الشركة نزيهة فعلًا. ربما هناك بعض الشركات النزيهة. كل يوم تأتي إلى العجوز كاتيا، موظفة من الشركة. تعطيه طعام العشاء، وتحضر له الشطائر للإفطار، تغطيها بقطعة قماش، وتضعها على الطاولة مع إبريق الشاي. الإبريق معد للإفطار أيضًا لكن العجوز كان يشرب منه الشاي في الليل أيضًا. كاتيا فتاة طيبة، تعمل بجد وإخلاص. بالإضافة إلى ذلك كانت الشركة تجلب الغداء للعجوز.
كاتيا كانت تعطيه الأدوية، وتغير له الحفاضات، وتغسل الصحون، وأحيانًا كانت تقيس له الضغط، وأحيانًا تنظف البيت، ليس دائمًا، لكنها كانت تنظفه.
كانت حياة العجوز منظمة، وقليلون من هم محظوظون مثله.
ذات يوم سأل العجوز كاتيا:
– تنتظرين موتي؟ أليس كذلك؟
فأجابت كاتيا:
– ولماذا أنتظر موتك؟ أنت تعيش، وأنا أعمل، مع أن العمل متوفر في أماكن أخرى.
– وإدارة الشركة هل ينتظرون موتي؟
– لا أعرف، قالت كاتيا، الجواب عندهم.
– لكن ألا يسألونكِ عني، وكيف أشعر؟
– طبعًا يسألونني.
راح العجوز يحدث نفسه: «طبعًا ينتظرون موتي، ربحهم يعتمد عليّ، مرت أربعة أعوام على توقيعي العقد معهم، ولم أمت بعد، كما هو غير متوقع».
في اليوم التالي بعد هذا الحوار طلب العجوز من كاتيا أن تضع له العشاء في صحن من طقم الصحون، ولم يكن هناك سبب واضح لهذا الطلب المفاجئ حتى بالنسبة للعجوز نفسه. كان عنده طقم صحون خزفي، هدية من غنائم الحرب قدمها شخص ما إلى والديّ العجوز في الخمسينيات في عيد زواجهما الفضي، والعجوز كان في مقتبل العمر في ذلك الوقت، وأخذ طقم الصحون كذكرى من والديه، والآن يطلب أن يوضع له العشاء فيه. قال لكاتيا:
– تجدينه في الخزانة، في الغرفة الكبيرة.
أحضرت كاتيا له العشاء، وقالت:
– تفضل..
– هذا ليس الطقم، قال العجوز.
هزت كاتيا كتفيها وقالت:
– لا تتطلب يا عم… كُل، أنت لست الوحيد الذي يجب عليّ خدمته اليوم.
أعطت العجوز طعام العشاء، ووضعت شطائر الإفطار وإبريق الشاي على الطاولة، ثم أعطته الأدوية، وقالت له:
– إلى اللقاء غدًا.
– إلى اللقاء غدًا…. إلى اللقاء، قال العجوز.
وبعد أن خرجت استجمع العجوز قواه، وجلس هادئًا، أخذ نفسًا طويلًا ثم لامس بقدميه الأرض، لم يجد صعوبة كبيرة في الوقوف، مع أنه غير معتاد وليس من السهل عليه، لكنه وقف ممسكًا بحافة السرير، ومشى على طول الجدار.
عندما وصل إلى الغرفة الكبيرة لم يجد طقم الصحون في الخزانة، حتى الخزانة نفسها لم يجدها. لم يجد فيها شيئًا، التلفاز، والسجادة، والخزانة كلها لم تكن موجودة، والأهم من كل هذه الأشياء هي اللوحات التي أهداها له صديقه الفنان «كليوشي». الغرفة كانت فارغة، فارغة تمامًا.
ورق الجدران كان على شكل مستطيلات كبيرة ملونة حول الأثاث، ومستطيلات أصغر حول اللوحات. لم يتأسف العجوز على الخزانة، وما الذي تمثله الخزانة بالنسبة له؟ حتى طقم الصحون ليس مهمًا. ومع أنه حزين لفقدانه، فالطقم ليس شيئًا من أدوات المطبخ، بل إنه يذكره بوالديه. هو الشخص الأخير في هذا العالم الذي يتذكرهما، ويذكر كيف كانا يضعان الطقم على الطاولة في الأعياد، حتى ابنته التي عرفتهما عندما كانت طفلة ماتت هي الأخرى في ألمانيا بعد زواج سعيد. زوجها عرفها على أوروبا وأميركا، وعمل كل ما يستطيع من أجلها، لكنها، على أية حال، توفيت بعد معاناة طويلة مع المرض. هكذا أبلغه زوجها الألماني في رسالة كتبها بحروف روسية كبيرة منذ سنة مضت.
من الغرفة الكبيرة عرّج العجوز على المطبخ، ووجد هناك موقد غاز، وحوضًا للغسيل، وثلاجة، لكنها ليست ثلاجته فهي صغيرة وقديمة. أجهد نظره لقراءة ما هو مكتوب عليها: «ساراتوف».
وجد العجوز على الطاولة عددًا من الصحون، وشوكة، وملاعق طعام، وملاعق شاي، كما وجد سكينًا.
فكر العجوز: «أين اختفى كل شيء؟ ومتى؟ لماذا لم أسمع شيئًا؟».
ظنّ العجوز أن أغراضه أُخرِجت عندما كان نائمًا، وهو ينام كثيرًا، ونومه عميق. اختفت أغراضه، وكأن الأرض ابتلعتها.
حدث العجوز نفسه من جديد: «طبعًا، لست بحاجة لها، هم أكثر حاجة لها مني، هم يريدون العيش، لكن لماذا لم يتركوا اللوحات فأنا حزين لفقدانها؟».
كان هناك أيضًا في زاوية المطبخ ورق جدران، ووعاء، ودهان، وأدوات لإصلاح البيت: سُلَّم، ودلو وما شابه….
اقترب العجوز من ورق الجدران مستندًا بإحدى يديه على رفّ النافذة، وبالأخرى ثنى حافة الورق، وراح يتأملها.
لا، لم يعجبه الرسم المنقوش عليها، إطلاقًا.
*****

ألكسندر خورغين: كاتب روسي ولد في موسكو، وعاش في أوكرانيا، ويعيش حاليًا في ألمانيا، كتب العديد من الكتب النثرية، وحصل على عدة جوائز أدبية. تُرجمت بعض كتبه إلى الألمانية، والفرنسية، والإنكليزية، والإسبانية، وغيرها من اللغات الأوروبية.
القصة نُشرت في العدد الرابع لسنة 2017 من مجلة «أكتوبر» الروسية الأدبية: (http://magazines.russ.ru/october/2017/4/ischeznoveniya.html)

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة