عمرو حمزاوي
ملخّص: تتيح السيطرة على وسائل الإعلام والممارسات القمعية النظام الحاكم من تعقّب المجتمع المدني الذي تغلق أمامه ساحات النشاط العلني وتقيّده قوانين سلطوية الطابع.
يغري القمع الحكم في مصر بالاعتماد عليه كأداة رئيسة لإدارة شؤون المواطن والمجتمع والدولة. يوظف القمع لضمان طاعة أو عزوف الأغلبية، ولكي يحد من ضجيج المعارضين. يقبل الحاكم ونخبته مخاطرة تراجع فاعلية القمع بمرور الوقت، إما تعويلا على الابتكار المستمر لممارسات قمعية أشد فتكا أو إلحاقا لأدوات إضافية بالقمع تستهدف أيضا إخضاع المواطن وضبط المجتمع والسيطرة على مؤسسات الدولة.
ومن بين تلك الأدوات الإضافية يبرز اليوم الإعلام، فالحكم ونخبته والمصالح الاقتصادية والمالية والإدارية المتحالفة معه أو الموالية له تجد في وسائل الإعلام التقليدية كالصحافة والبرامج الإذاعية والتليفزيونية المساحة الأسهل لممارسة الهيمنة على الفضاء العام واحتكار الحديث باسم الوطن والمصلحة الوطنية.
ومن خلال إحكام السيطرة على الإعلام، إن عبر تمرير قوانين جديدة للإعلام تكبل حرية التعبير عن الرأي وتستحدث هيئات حكومية كالمجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة وظيفتها إخضاع الإعلاميين والصحافيين لإرادة الحكم أو بتوسيع ملكية الأجهزة الأمنية والاستخباراتية لوسائل الإعلام، يسعى الحكم إلى فرض صوته على الناس كالصوت الأوحد للشعب والصالح العام وكذلك إلى نزع المصداقية الوطنية والأخلاقية عن كل صوت آخر تارة تخوينا وتارة تشويها.
أما القطاعات الطلابية والشبابية ومنظمات المجتمع المدني المستقلة والفعاليات السلمية الأخرى التي تريد لمصر العودة إلى مسار تحول ديمقراطي حقيقي وترفض الهجمة السلطوية على الحقوق والحريات وتنأى بنفسها دوما عن التورط في خروج على القانون أو في عنف أو في تبرير للجرائم الإرهابية ولا تساوم على ضرورة الانتصار لمجتمع يسوده السلم الأهلي والتسامح ولدولة وطنية عادلة وقوية، هذه القطاعات والمنظمات تعاني من القمع الممنهج للحكم وتعجز عن أن تعين بعد بالدقة المطلوبة الرؤى والأفكار والتوجهات التفصيلية التي ترغب في دعوة أهل مصر إلى مساندتها لكي تنجو البلاد في حاضرها ومستقبلها من الهجمة السلطوية الراهنة.
بل ولم ينجح أنصار الديمقراطية في صياغة استراتيجيات بديلة للتعامل مع وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي لكي يخاطبوا الرأي العام بفعالية.
عبر السيطرة على وسائل الإعلام ومن خلال ممارسة القمع باتجاه المجموعات المدافعة عن الديمقراطية والحقوق والحريات، يواصل الحكم في مصر إلغاء السياسة وقصر صناعة القرار على المؤسسات والأجهزة والدوائر الرسمية (السلطة التنفيذية).
يمكن خليط السيطرة على وسائل الإعلام والممارسات القمعية الحكم من تعقب المجتمع المدني الذي تغلق أمامه ساحات الفعل العلني وتقيده قوانين سلطوية الطابع، ومن تهجير المواطن من الفضاء العام عبر استخدام قوانين سلطوية أيضا تتوعده بالويل والثبور وعظائم الأمور ما لم يمتثل للصوت الأوحد القادم من مقر رئاسة الجمهورية.
وفي باب تبرير القمع، تزين السيطرة على الإعلام للحكم الاكتفاء بالترويج لمقولات شديدة العمومية عن حتمية دفع الوطن إلى النهوض والمجتمع إلى التنمية والدولة إلى الاستقرار والحفاظ على الأمن القومي. وتلك جميعا أهداف لا يختلف عليها، غير أن مضامينها المحددة تختلف بشدة بين الممارسة الديمقراطية التي ترى في احترام الحريات والحقوق والتداول السلمي للسلطة أساس نهوض الوطن وتنمية المجتمع واستقرار الدولة وبين الممارسة السلطوية التي تصور الحاكم كبطل مخلص ومنقذ والملاذ الأوحد لتحقيق الصالح العام.
يواصل الحكم ذلك النهج المستند إلى السيطرة على الإعلام والقمع وإسكات الصوت الآخر، بينما تتمسك قطاعات شعبية ليست بالصغيرة بدعمها له إن اقتناعا بحتمية «الاعتذار» عن تجربة التحول الديمقراطي التي بدأت في كانون الثاني/يناير 2011 وانتهت في صيف 2013 بعد خطايا كبرى للقوى السياسية الإسلاموية والعلمانية أو تقريرا بضرورة «الاعتراف» بعدم ملاءمة الديمقراطية والحقوق والحريات لأوضاعنا المصرية أو تسليما بأن منع تحول مصر إلى «سورية جديدة» يستدعي تأييد الحاكم القادم من المؤسسة العسكرية.
لا ينبغي، إذا، إنكار حضور قطاعات شعبية مؤثرة تؤيد الحكم السلطوي وتشك في نوايا الإسلامويين والعلمانيين وتستريح لحضور الحاكم ذي الخلفية العسكرية وتتخوف من غيابه لكيلا تلحق الأضرار بالوطن والمجتمع والدولة. والبعض الآخر يؤيد الحاكم ونخبته أملا في تحسن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والمستويات المعيشية بعد سنوات التراجع منذ 2011. ولمقولات الخوف من أن تلحق المصائر الإقليمية بمصر ولآمال «الخروج من عنق الزجاجة» تروج وسائل الإعلام المسيطر عليها بكثافة بالغة.
غير أن حضور جمهور الموالاة لا يلغي أبدا وجود قطاعات شعبية معارضة وقطاعات أخرى ربما كانت قبل سنوات في خانات تأييد ودعم الحكم السلطوي وتبدو عليها اليوم مظاهر التململ والتأرجح بين العزوف والرفض الصامت للهجمة السلطوية وبين الجهر بالرفض ومعارضة انتهاكات الحقوق والحريات التي يتحمل مسؤوليتها الحاكم ونخبته.
كذلك لا ينفي حضور جمهور الموالاة حقيقة ارتفاع أصوات بعض القطاعات الطلابية والشبابية مطالبة بإنهاء وضعية الأمة معطلة الضمير والعقل السائدة في بلادنا بسبب المظالم المتراكمة وسيادة القانون المتراجعة والعدل الغائب. أنصار الديمقراطية بين الطلاب والشباب يدعون إلى العودة إلى مسار تحول ديمقراطي، وينادون برفع المظالم وإنهاء انتهاكات الحقوق والحريات وإيقاف الإجراءات العقابية التي أنزلت بالناس خلال السنوات الماضية في إطار منظومة متكاملة للعدالة الانتقالية تضطلع أيضا بمهام توثيق الانتهاكات والمكاشفة والمساءلة والمحاسبة.
إلا أنهم وبجانب القمع الذي يواجهونه يوميا يقفون أمام تحدي ترجمة مبادئ الديمقراطية إلى قائمة واقعية من الرؤى والأفكار والتوجهات والمطالب القابلة للتداول في الفضاء العام، والقادرة على تقديم بديل واضح المعالم للحكم ولهجمته السلطوية بقوانينها وممارساتها الكثيفة، والراغبة في استعادة الثقة الشعبية في إمكانية إدارة تحول ديمقراطي ناجح في مصر.
من دون مثل هذا الاشتباك الإيجابي مع الرأي العام واستعادة اهتمام العازفين بين المواطنين بمطالب الديمقراطيين، ستتواصل الهجمة السلطوية وسيواصل الحكم شيطنة الفكرة الديمقراطية ودفع النـاس إلى مواصـلة الاعتـذار عـن تجربـتها بـين 2011 و2013.
عمرو حمزاوي
تشمل أبحاثه الديناميكيات المتغيّرة للمشاركة السياسية في العالم العربي، ودور الحركات الإسلامية في السياسة العربية.
مركز كارنيغي للشرق الاوسط