اليابان أولا

إيان بوروما
طوكيو

حتى الحيتان تأثرت الآن بسياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب. في الآونة الأخيرة، أعلنت اليابان انسحابها من اللجنة الدولية للحيتان بهدف استئناف الصيد التجاري في يوليو/ تموز المقبل. تزعم حكومة رئيس الوزراء شينزو آبي المحافِظة أن أكل لحم الحيتان هو جزء مهم من الثقافة اليابانية، على الرغم من أن عدد اليابانيين الذين يستهلكون لحم الحيتان في الواقع صغير مقارنة بنصف قرن مضى. وسيعني الانسحاب من اللجنة الدولية للحيتان أن صائدي الحيتان اليابانيين يمكنهم الصيد فقط في المياه الساحلية لليابان، اذ يكون عدد الحيتان صغيرا نسبيًا.
والحقيقة هي أن القرار بالانسحاب يعد خبرا سارا بالنسبة لبعض السياسيين من المناطق التي لا يزال يمارس فيها صيد الحيتان، والقوميين المستاءين الذين يتم إخبارهم من قبل الأجانب في المنظمات الدولية بما يمكن لليابان فعله وما لا تستطيع القيام به. ووفقاً للصحيفة الليبرالية «أساهي شيمبون»، يعد ذلك إجراءا سياسيا، مستوحى من إصرار ترامب على تنفيذ سياسة «أميركا أولاً». لكن الأمر يتعلق الآن بقضية «اليابان أولاً». على الرغم من عدم تدخل ترامب، إلا أن إصرار اليابان على صيد الحيتان يعد سيئًا لصورة البلاد.
إن علاقة آبي، وهو قومي ياباني صارم، مع الولايات المتحدة معقدة للغاية. مثل جده نوبوسوك كيشي – وهو أيضا قومي تم اعتقاله كمجرم حرب عام 1945، لكنه أصبح بعد ذلك حليفا مخلصا للولايات المتحدة ضد الشيوعيين – يعمل آبي جاهدا على توطيد العلاقة مع الولايات المتحدة، في حين يرغب في تنفيذ نهج «اليابان أولا». كان أحد أحلامه إكمال محاولة جده لتعديل الدستور السلمي بعد الحرب الذي وضعه الأميركيون واستبداله بوثيقة أكثر وطنية وربما أكثر استبدادية من شأنها إضفاء الشرعية على استعمال القوة العسكرية.
يجب أن تصبح اليابان حليفًا قويا للولايات المتحدة. فقد انضمت ألمانيا وإيطاليا، القوى المهزومة الأخرى في الحرب العالمية الثانية، إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. لم تُوقع اليابان سوى معاهدة تعاون وأمن مع الولايات المتحدة في عام 1960 لحماية نفسها من القوات المعادية، كما يثير صعود الصين مخاوف اليابانيين. ولهذا السبب كان آبي أول سياسي أجنبي، بعد رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، يهرع إلى تهنئة ترامب شخصياً في عام 2017.
في بعض القضايا المهمة، استفادت اليابان بنحو كبير من حماية أمريكا، ومن دستور ما بعد الحرب، الذي لم يكن فقط سلميا، بل أكثر ديمقراطية من أي دستور في البلاد، حيث يحافظ على الحقوق الفردية وحق الاقتراع الكامل وحرية التعبير. يمكن لليابان – غير القادرة دستوريا على المشاركة في المغامرات العسكرية، إلا كمنتج البضائع مدفوعة الأجر خلال الصراعات الآسيوية المتعددة للولايات المتحدة – مثل دول أوروبا الغربية، التركيز على إعادة بناء قوتها الصناعية.
لكن تدخل الولايات المتحدة أعاق أيضا النظام الديمقراطي الذي تأسس في الولايات المتحدة بعد عام 1945 والذي ما يزال الأميركيون فخورين به. مثل إيطاليا، كانت اليابان على الخطوط الأمامية في الحرب الباردة. ومثل الحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا، استفاد الحزب الديمقراطي الليبرالي المحافظ في اليابان لسنوات عديدة من التدفق النقدي الأميركي الهائل لضمان عدم وصول الأحزاب اليسارية إلى السلطة. ونتيجة لذلك، أصبحت اليابان دولة حزب واحد بحكم الواقع.
وأدى ذلك إلى نوع من الانقسام بين القوميين المحافظين في اليابان مثل آبي. وأعربوا عن تقديرهم للسخاء الأميركي، فضلا عن دعمها العسكري ضد الأعداء الشيوعيين. لكنهم استاءوا بشدة من العيش مع دستور ليبرالي فرضته الدول الأجنبية. مثل محكمة مرتكبي جرائم الحرب في طوكيو في عام 1946، اذ قام قضاة أجانب بمحاكمة قادة الحرب اليابانيين، يُنظر إلى الدستور وكل ما يمثله على أنه إهانة للبلاد.
يود اليمين الياباني إسقاط معظم نظام ما بعد الحرب، الذي أنشأته الولايات المتحدة بدعم من الليبراليين اليابانيين. لا يتضمن مشروع التعديل الذي أعده آبي المادة 9 السلمية من الدستور فقط، التي تمنع اليابان من استخدام القوات المسلحة، بل أيضًا التعليم وقانون الطوارئ ودور الإمبراطور.
من أجل تعديل المادة 9 من الدستور، تحتاج الحكومة الائتلافية الحالية إلى دعم ثلثي البرلمان، بالإضافة إلى الفوز باستفتاء شعبي. بعد فوزه الساحق في انتخابات عام 2017، أصبح لدى آبي الأغلبية البرلمانية المطلوبة. مازال فوزه في الاستفتاء غير مؤكدا، لكنه تعهد بإجراء هذا الاختبار قريبا. في مجال التعليم، حقق آبي بالفعل بعض النجاحات المهمة. تعد «الوطنية» و «التعليم الأخلاقي» هدفان رسميان للمناهج الدراسية الوطنية. وهذا يعني أنه يتم تعليم الأطفال اليابانيين أهمية طاعة الحكومة في سن مبكرة، بدلاً من متابعة الحقوق الفردية والحرية. وهذا يعني أيضا أن تاريخ الحرب اليابانية، إذا تم تدريسه في الفصول الدراسية، سيكون بمنزلة مشروع بطولي ينبغي أن يفخر الشباب به.
في الماضي، كانت الولايات المتحدة، برغم كل أخطائها وصراعاتها الإجرامية، قابلة للتكيف مع المواقف الأيديولوجية المختلفة. لا يزال الانموذج الأميركي للانفتاح والديمقراطية جديرا بالإعجاب. في نفس الوقت، كما هو الحال في أوروبا الغربية، لم يكن الاعتماد على الحماية العسكرية الأميركية له تأثير إيجابي كامل، حيث أصبحت اليابان دولة تابعة. انتهى اليابانيون بالخضوع لجميع مطالب الأميركيين. وهذا يمكن أن يكون له تأثير كبير على السياسة.
في عصر ترامب، لم تعد أميركا موثوقة. هذا قد يساعد اليابانيين في الأقل في التركيز على كيفية الاندماج في العالم دون مساعدة الأميركيين. لكن الولايات المتحدة لم تعد انموذجا للحرية والانفتاح. بل على العكس، فقد أصبحت مثالاً للنزعة القومية الضيقة وكراهية الأجانب والانعزالية. لا يحتاج القوميون اليابانيون أي تشجيع إضافي لتبني هذا النمط. إذا فعلوا ذلك، فلن يشكل ترامب بالتأكيد عقبة. وبذلك سوف يقلدون أسوأ جوانب أميركا الحديثة – وسيتجنبون أفضل ما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة.
إيان بوروما هو مؤلف كتاب «قصة طوكيو الرومانسية: مذكرات».

بروجيكت سنديكيت
www.project-syndicate.org

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة