الموازنة العراقية.. «خسارة الربح»

 سلام مكي

تمثل الموازنة السنوية للدولة العراقية، هاجسا قويا يؤرق السلطتين التنفيذية والتشريعية معا، كونه من القوانين المهمة التي ينبغي إقرارها سنويا، في وقت تعاني هاتان السلطتان من عدة مشكلات جوهرية تتمثل بعدم التجانس بين مكوناتهما ووجود تنافر وتقاطع كبير في برامج الكتل السياسية المشاركة في السلطة وعدم الاعتماد على الجانب العلمي والقانوني في هذه المسألة وإخضاعها للمحاصصة السياسية من دون الانتباه الى ان هذا الجانب الخطير والمهم ينبغي ان يكون مستقلا لما له من دور في الحياة الاقتصادية العامة للدولة. 

قانون الموازنة العامة، يسبب وفي كل عام إحراجا للحكومة أولا يتمثل بأنها تخالف نص المادة 2 من القسم 4 من قانون الإدارة المالية والدين العام والتي تنص: يقرر مجلس الوزراء قانون الموازنة السنوية وتقدم من قبل وزير المالية في 10 تشرين الثاني الى الجهة التي ستكون السلطة التشريعية للموافقة عليه او تعديله استنادا الى المادة 33 ت من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية.

إلتزام حكومي 

الحكومة ملزمة بأن تقدم مشروع قانون الموازنة الى مجلس النواب في التاريخ الذي حدده النص القانوني وان أي تأخير يعني خرق القانون من قبل الوزارة. وهو ما تقوم به بشكل سنوي دون ان تجد رادعا! حيث ان السنة تنتهي ولم تقدم الحكومة مشروع القانون الى مجلس النواب، وعندما يقدم سوف يصطدم حتما بكم هائل من المعرقلات التي تجعل من إمكانية تمريره أمرا شبه مستحيل، خصوصا وان العرف الذي يسير عليه مجلس النواب هو التوافق بين جميع المكونات أي لإقرار أي قانون يجب أن توافق جميع الكتل الصغيرة والكبيرة منها، لكن التجارب السابقة بينت أن طريق الأغلبية كان الحل للخروج من مشكلة الموازنة، حيث تلجأ الكتل السياسية الى تجاهل مكون معين أو ممثليه لغرض إقرار الموازنة. الميزة العامة لهذا القانون، هو عدم وجود الحسابات الختامية للموازنات السابقة، وهذا ما يخالف نص المادة 62 من الدستور التي ألزمت الحكومة بتقديم مشروع قانون الموازنة والحساب الختامي لإقراره!.

تكليف

ولما كان مشروع قانون الموازنة يعتمد على الجانب العلمي والقانوني والتخطيطي لغرض تحقيق أهدافه، ثمة عناصر وأسس ينبغي على وزارة المالية باعتبارها الجهة المكلفة بإعداد هذا القانون ان تراعيها: 

1. بما أن الدستور نص على ان النفط والغاز ملك للشعب العراقي، وحيث ان الموازنة تعتمد على النفط بشكل كامل، ينبغي توزيع هذه الثروة بشكل متساو وخاضع لأسس علمية، فيجب ان توزع الثروة بشكل عادل وبناءً على النسب السكانية لكل محافظة، وهذا يستدعي وجود تعداد عام للسكان، يعطي أرقاما لعدد سكان كل محافظة، لغرض احتساب معدل الدخل السنوي للفرد الواحد، فمن غير المعقول ان تمنح محافظة حصة من الموازنة تزيد عن حصة محافظة أخرى وعدد نفوسها أقل بكثير من الثانية! ولكن المشكلة ان قانون التعداد العام للسكان غير مفعّل والوزارة لا تملك أرقاما حقيقية وإنما تعتمد على أدوات تخمينية كالبطاقة التموينية وغيرها. كذلك ان وجود تعداد للسكان يساعد الحكومة على التخلص من المأزق الذي وضعته الحكومة المؤقتة برئاسة اياد علاوي والمتمثل بحصة اقليم كردستان البالغة 17% من الموازنة بدون الاستناد الى معيار قانوني او تخطيطي. فلو وجود التعداد العام للسكان لعرفت حصة كل محافظة استنادا الى عدد سكانها، لا ان تحسب الحصة بناءً على اتفاقات سابقة استندت على توافقات وتحالفات انقضت ولكن أثارها لم تنقض. 

2. يجب الأخذ بنظر الاعتبار معدل الفقر بالنسبة لكل محافظة وهذا يعتمد على التنسيق بين اللجنة الخاصة بإعداد الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفقر، التي يجب ان تملك معلومات وأرقام عن عدد العوائل الفقيرة في كل محافظة وتملك إحصائيات خاصة بعدد الأسر التي تعيش تحت خط الفقر. 

3. امتلاك فكرة كاملة عن مستوى البناء والاعمار في كل محافظة، فهناك الكثير من المحافظات قد تضررت بسبب التهميش والإقصاء، حيث إنها لا تملك بنى تحتية ولا مؤسسات، وتعاني من مدنها من غياب لأي تطور عمراني. ومن الطبيعي ان تكون المحافظة التي فيها أكبر عدد من الفقراء تكون بحاجة الى خدمات لأن هؤلاء الفقراء حتما يعيشون أما في العشوائيات أو التجاوزات التي تفتقر الى أبسط مقومات العيش أو في أحياء فقيرة لا تصلها الخدمات من كهرباء وماء صالح للشرب وطرق حديثة ولا يتلقون خدمات صحية ولا تعليم.

وعلى مدار السنوات السابقة، لم تترك الموازنات الانفجارية التي تضم في كل عام رقما جديدا يبدو الأكبر في تاريخ العراق، فهي ومنذ عامين، تتجاوز عتبة ال100 مليار دولار. المواطن، لم ير من هذه الموازنات شيئا يذكر، فعندما تنقضي السنة المالية التي كانت ميزانيتها 100 مليار دولار، لا يجد تغيرا في البنى التحتية، فلم يبلط شارع، ولم ينشئ جسر، لم يبن مجمع سكني يمكنه استيعاب المواطنين الذين لا يملكون سكنا يليق بهم، عدا التقارير الحكومية التي تشير الى وجود العشرات من المشاريع المتلكئة وإحالة مقاول الى النزاهة ورفع دعوى قضائية ضد الشركة المنفذة لأنها لم تف بالتزاماتها، وكلها لا تقدم ولا تؤخر في قضية استعادة الأموال المهدورة على مشاريع اغلبها وهمية او غير ذات جدوى حقيقية.

كتل نقدية

الموازنات أغلبها لم تحقق شيئا سوى إنها تخلق كتل نقدية ضخمة تذهب الى أشخاص معدودين تحت مسميات عديدة، وهذه المبالغ لا يتم استثمارها في العراق وإنما تحول الى مصارف خارجية. هذه الكتل النقدية، تستند الى قوانين أخرى غير قانون الموازنة منها قوانين امتيازات ومخصصات منتسبي الرئاسات التنفيذية والتشريعية التي منحت رواتبا وتقاعد الى الوزراء والنواب لا تتناسب مع المدة التي خدموا فيها ولا حتى مع الجهد الذي بذلوه أثناء خدمتهم. كذلك، التعديلات التي تجري بين فترة وأخرى على قانون التقاعد والخدمة المدنية ومؤسسة الشهداء والسجناء السياسيين. هذه المؤسسات التي تستنزف مبالغ طائلة من الموازنة كرواتب شهرية لمن تم احتسابهم شهداء بموجب الوضع الجديد او سجناء. كذلك مبالغ تعويضات ضحايا الإرهاب المفتوحة نظرا لارتفاع أعداد أولئك الضحايا يوميا، إضافة الى كوارث الفيضانات والحرائق وغيرها التي تلزم الحكومة نفسها بتعويض المتضررين، كلها استقطاعات على حساب الجانب الاستثماري الذي يحتاجه البلد أكثر من الجانب التشغيلي او الاستهلاكي. صحيح ان هذا الاتجاه يؤدي الى زيادة القدرة الشرائية لدى الأفراد ويساعد على زيادة الطلب على السلع والخدمات وينمي مدخولات الأفراد الشهرية لكنه بنفس الوقت يقلل من فرص الاستثمار والإنتاج ويعطي واقعا متناقضا يتمثل بوجود مرافق خاصة او قطاع خاص متطور نسبيا قياسا الى المرافق العامة السيئة حيث الافتقار الى الخدمات العامة مقابل وجود طبقة مرفهة.

ماذا عن تأخر الموازنة؟

خمسة أشهر مرت على بداية السنة الجديدة والموازنة لم تقر، والقوانين ضربت بعرض الحائط! كلما استطاع مجلس النواب فعله هو قراءة قانونها قراءة أولى فقط. وقد حاولت بعض الكتل عقد جلسة لقراءتها قراءة ثانية لكن النصاب القانوني لم يكتمل حيث يتعمد النواب الرافضون لقانون الموازنة بصيغته الحالية الحضور لمجرد مناقشته لا التصويت لصالحه، لأسباب كثيرة معظم تلك الأسباب حزبية وفئوية وليست بدوافع وطنية أو لأجل المصلحة العامة. 

كل كتلة لها مطالب خاصة تتعلق بجمهورها، برغم ان هذه الكتل تملك في الحكومة وزراء ربما صوتوا لصالح مشروع القانون ولم يطالبوا مجلس الوزراء بشيء لأجل مناطقهم مثلما يطالب زملاؤهم في مجلس النواب. وهؤلاء طبعا، لا يفكرون بما هو أكبر من جمهورهم وهو العراق! فرفضهم التصويت على مشروع قانون الموازنة يعني ان الحكومات المحلية ستفلس لأن مواردها كلها اتحادية وكل مشاريعها ستتوقف وسوف لن يكون هناك بناء ولا اعمار فيها. 

تأخر إقرار الموازنة يعني ان العراق يخسر شهريا 5 مليار دولار كما صرح بذلك احد أعضاء مجلس النواب. والسبب هو الخلافات السياسية، المرتبطة ببعضها، فالخلاف النفطي بين بغداد واربيل يشكل معرقلا أساسيا للخلاف حول الموازنة وكذلك الخلاف الطائفي بين باقي المكونات أيضا له دور في الخلاف حول الموازنة، حيث ان النواب يضحون بمصلحة جمهورهم العليا مقابل مصالحهم! فمناطقهم سوف لن ينالها أي مشروع استثماري ولا خدمي وأبناءهم سوف لن يحصلوا على وظائف لأنها مرتبطة بالموازنة.

المشكلة تكمن في ان الشعب لا يطالب بإقرار الموازنة برغم ان مصالحه كلها متوقفة عليها، فلم يتظاهر يوما ولم يستخدم وسيلة من وسائل الضغط على مجلس النواب لكي يجبره على إقرار الموازنة، بل العكس، فالشعب معظمه قرر مكافأة معرقلي مصالحه بأن انتخبهم مرة ثانية، فالناخب العراقي يطالب بينه وبين نفسه السياسيين بأن يلتفتوا إليه ويقروا الموازنة حتى تتاح له فرصة في الوظيفة، حتى ينال مدينته مشروعا خدميا، وفي الوقت نفسه يحاول جاهدا ان يجد طريقة لكي لا يخسر في الانتخابات من يقف حجر عثرة في طريق حقوقه. فهو لا يكتفي بانتخابهم مجددا وإنما يجاهر بانتمائه لهم ويخون ويكفر كل من تسول له نفسه انتقادهم. ومن الطبيعي ان يستمر مسلسل تأخر إقرار الموازنة كل سنة مادام مجلس النواب مشتتا ولا تهمه المصلحة العليا للشعب، خصوصا وان الانتخابات الأخيرة حددت ملامح الطبقة السياسية التي لن تختلف عن ملامح الطبقة السابقة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة