بين فيشمان*
أثار التقرير الذي بثته شبكة “سي أن أن” حول مزادات “العبيد” في ليبيا منذ عرضه موجة غضب دولية. فقد احتج فنانون أفارقة وشخصيات رياضية بارزة في أوروبا خلال تقديم عروضهم وخلال المباريات على هذا الأمر، واندلعت التظاهرات أمام السفارات الليبية في بروكسل ولندن وباريس وغيرها من المدن. وفي 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إنه “شعر بالرعب” لمشاهدة اللقطات السرية، داعياً “جميع السلطات المعنية إلى التحقيق في هذه الأنشطة من دون تأخير وتقديم الجناة الى العدالة”. ومن جهتها، دعت فرنسا إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي؛ وخلال الاجتماع الذي عٌقد في 28 تشرين الثاني/نوفمبر، سلّط المسؤولون الضوء على الحاجة إلى فرض عقوبات واتخاذ تدابير صارمة أخرى بحق المتاجرين بالبشر إلى جانب تعزيز التعاون مع السلطات الليبية. وقد طغت هذه المسألة أيضاً على القمة السنوية للاتحاد الأفريقي- الاتحاد الأوروبي التي عُقدت في 29 و30 تشرين الثاني/نوفمبر، حيث اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إعادة المهاجرين إلى بلادهم ونشر قوات أمن أوروبية لمعالجة الأزمة. بدورها، وعدت الحكومة الليبية بالتحقيق بتقارير بيع “العبيد” لكنها طلبت المزيد من المساعدات الدولية للتعامل مع التحديات التي تطرحها مشكلة الهجرة.
وناهيك عن موجة الغضب، أثارت الأزمة توترات على صعيد أهداف الاتحاد الأوروبي المخصصة لليبيا. فمن جهة، يدعم الأوروبيون عملية إحلال السلام التي تقودها الأمم المتحدة لاستئناف عملية الانتقال السياسي في البلاد، ويوافقون على أن استقرار ليبيا يصبّ في مصلحتهم. ومن جهة أخرى، غالباً ما تسعى إيطاليا وفرنسا وغيرهما من الدول إلى الحدّ من تدفق المهاجرين من خلال إبقائهم في ليبيا، مما يؤدي إلى تفاقم أوضاعهم وتعزيز المؤسسات الإجرامية مثل “أسواق العبيد” السرية. وستتواصل على الأرجح الجهود القصيرة الأمد للتخفيف من الأزمة الإنسانية، ولكن من دون وجود حكومة مستقرة وعملية ترمي إلى دمج الميليشيات ضمن العمل الشرعي لحماية الدولة، ستستمر ظاهرة “استعباد” المهاجرين واستغلالهم.
العمالة القسرية وأزمة الهجرة
في نيسان/ أبريل المنصرم، بدأت “المنظمة الدولية للهجرة” بدق ناقوس الخطر بشأن العمالة القسرية في ليبيا بعد إجراء مقابلات مع مهاجرين فارين. فالفارون في ليبيا والنيجر رووا قصصاً متشابهة جداً: قام مهربون كانوا قد دفعوا لهم المال لنقلهم إلى الساحل ببيعهم أو خُطفوا على يد المتاجرين بالبشر على طول الطريق. وتعرّض الكثيرون للابتزاز من أجل دفع مبالغ إضافية لقاء حريتهم؛ أما آخرون فأُسروا مجدداً بعد فرارهم أو تحريرهم من قبل جماعات مختلفة. وخلال فترة احتجازهم، غالباً ما تعرضوا لسوء المعاملة وسوء التغذية والاعتداء الجنسي. وقد صوّر تقرير “سي أن أن” هذا الإجرام على أفضل وجه. وإذ ادعت الصحافية من أصول صومالية أنها مهاجرة تبحث عن أحد أقاربها، تمكّنت مع منتجها سراً من تسجيل مزاد لبيع البشر وحملت معها الدليل على ذلك.
يشار إلى أنه يصعب تحديد نطاق هذه المشكلة، لكن يُقدر أن يكون 20 ألف مهاجر يعيشون حالياً في مراكز اعتقال تابعة للدولة في ليبيا، بمن فيهم أفراد باءت محاولاتهم لعبور البحر المتوسط بالفشل أو أُلقي القبض عليهم قبل أن يتمكنوا من الإبحار. وتشير بعض التقديرات إلى أن مئات آلاف من المهاجرين الآخرين قد هربوا من الاحتجاز ولا يزالون يبحثون عن طرق لمغادرة البلاد. وفي هذا الإطار، صرّح المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان زيد رعد الحسين بعد عدة زيارات قام بها فريقه إلى المراكز الليبية في تشرين الثاني/نوفمبر بأن “العديد من المحتجزين سبق أن تعرضوا للاتجار والخطف والتعذيب والاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي والعمالة القسرية والاستغلال والعنف الجسدي الحاد والتجويع والفظائع الأخرى خلال رحلاتهم عبر ليبيا.
الأسباب الجذرية
يبدو أن تنامي ظاهرة الاتجار بالبشر في ليبيا واستغلال المهاجرين الأفارقة عموماً ينتجان عن عاملين أساسيين. أولاً، يقوم عدد كبير من المتاجرين باستغلال يأس المهاجرين للوصول إلى أوروبا، فينصبون لهم الأفخاخ ليعلقوا في ليبيا، ويعمدون إلى ابتزاز أسرهم للحصول على المزيد من الأموال وإلى بيعهم كـ”عبيد” أو استغلالهم في تجارة الجنس إذا لم يقبضوا المال. ولدى هؤلاء المهربين مُطلق العنان في ليبيا، مستغلين غياب القانون في البلاد، تماماً كما فعل تنظيم «الدولة الإسلامية» بين عامي 2015 و2016 عندما سيطر على سرت. ويتداخل المهربون وأفراد العصابات مع مشهد الميليشيات السائد، مما يجعل من الصعب للغاية تقليص أنشطة إحدى الجماعات من دون التأثير على مجمل الأرباح.
فعلى سبيل المثال، بعدما تمّ تكليف ميليشيا ودفع أجرها للحدّ من المهاجرين في صبراتة، التي تعتبر نقطة انطلاق مهمة إلى أوروبا، تعرضت لهجوم من قبل ميليشيا منافسة استاءت من تراجع عائداتها من عمليات التهريب نتيجة ذلك. وقد دفع العنف المتأتي بحوالي 13 ألف مهاجر للانضمام إلى نظام الاحتجاز المكتظ أساساً في أيلول/سبتمبر وحده.
ثانياً، لم تتمّ معالجة العوامل الرئيسية التي تدفع بالمهاجرين إلى المخاطرة وخوض هذه الرحلات غير الآمنة – أي الفقر وغياب الفرص في بلدانهم الأصلية – بشكل مناسب. وفي عام 2015، أنشأ الاتحاد الأوروبي صندوق ائتمان للطوارئ برأسمال قدره 3.2 مليار يورو من أجل تسهيل إدارة الهجرة عند نقطة المنشأ في أفريقيا. وقد تمت الموافقة حتى الآن على برامج تنمية اقتصادية وأخرى تركّز على الهجرة بقيمة 1.9 مليار يورو، لكن نظراً إلى الفقر والقدرات المتدنية للغاية التي لا تزال تسود الدول المستهدفة، لا بدّ من توسيع المبادرة التي يقودها الاتحاد الأوروبي بشكل كبير وإلا سيكون مصير المساعي الرامية إلى الحدّ من الهجرة إما الفشل أو التسبّب بازدياد انتهاكات حقوق الإنسان داخل دول مثل ليبيا.
وخلال قمة الاتحاد الأفريقي- الاتحاد الأوروبي، انضمّت فرنسا وألمانيا إلى عدد من الدول الأفريقية في الموافقة على تسهيل الإعادة الطوعية للمهاجرين الأفارقة إلى بلادهم الذين اختاروا ليبيا منصة انطلاقهم إلى أوروبا.
أما بالنسبة لاقتراح ماكرون بأن اللجوء إلى خطوة عسكرية قد يكون ضرورياً لمكافحة المهربين، فهو لم يَخض في تفاصيله بعد. وحالياً، يشارك نحو 4 آلاف جندي فرنسي في جهود مكافحة الإرهاب في الساحل. كما تدعم باريس المبادرة المشتركة بين بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر (المعروفة باسم الدول الخمس في الساحل الأفريقي) الرامية إلى تعزيز جهود أمن الحدود في المنطقة. وقد يسعى ماكرون إلى تمديد رقعة انتشار هذه الجهود من أجل استهداف الاتجار بالبشر في الصحراء الجنوبية في ليبيا. لكن أي تواجد عسكري فرنسي على الساحل الليبي سيكون أكثر صعوبة في التنفيذ من الناحيتين السياسية واللوجستية، وسيعقّد على الأرجح مساعي السلام التي يقودها الممثل الخاص للأمم المتحدة غسان سلامة.
معالجة الأزمة
يسلّط الكشف عن “أسواق العبيد” في ليبيا الضوء على الطابع الملح لخطة سلامة الرامية إلى إعادة الانتقال السياسي إلى مساره الصحيح وترسيخ حكومة وحدة متفق عليها. وحتى الآن، أَبلغ عن التقدم المحرز في تعديل “الاتفاق السياسي الليبي”، ويجري مفاوضات ناشطة بشأن شروط هذا الاتفاق بين “مجلس النواب” و”المجلس الأعلى للدولة”، غير أن الانقسامات الداخلية ضمن كل فصيل منافس قد اتسعت خلال هذه العملية. ويكتسي الحوار العسكري بين الجماعات المسلحة أهميةً مماثلة، حيث يجب أن يتطرق إلى خطوات مشتركة لمواجهة العصابات والمتاجرين بالبشر. ولا بدّ من إيجاد حل لعناصر الميليشيا الذين يشاركون في هذا الاتجار – سواء من خلال عفو عام مقابل التخلي عن السلاح والتسريح الواضحين أو المحاكمات الجنائية.
وعلى الرغم من أن أزمة المهاجرين ليست ملحةً كثيراً بالنسبة للولايات المتحدة، يتعين على واشنطن أن تضطلع بدور مهم يتمثل بضمان أن تكمّل الجهود الأوروبية المتعلقة بالهجرة الجهود السياسية التي يقوم بها سلامة بدلاً من معارضتها. ويؤدي ذلك إلى حوار وثيق أمريكي- فرنسي حول نطاق أفكار ماكرون العسكرية. فالولايات المتحدة تدعم أساساً الجهود العسكرية الفرنسية في المنطقة وتمدّها بوسائل النقل والتزود بالوقود والمساعدات الاستخبارية، ويمكن توسيع هذا الدعم لتمكين الجهود الفرنسية الرامية إلى مكافحة الاتجار بالبشر والإرهاب في جنوب ليبيا الشاسع. وإذا سعت باريس إلى توسيع عملياتها نحو الساحل، سيتوجب على واشنطن ضمان أن تكون المهمة مكمّلة لمصالح الولايات المتحدة والأمم المتحدة.
*بين فيشمان، زميل مشارك في معهد واشنطن.