جيفري فرانكل
أستاذ في كلية كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد
كانت المناظرات حول التنظيم المالي أكثر ميلا إلى التركيز على الكم وليس الكيف. ولكن «الأكثر في مقابل الأقل» ليس القضية الأساسية هنا. وعندما يتعلق الأمر بالإصلاح المالي في الولايات المتحدة، فمن غير المرجح أن يحصل الرئيس دونالد ترامب على التفاصيل على النحو السليم.
في وقت سابق من هذا الشهر، أصدر ترامب أمراً تنفيذياً يقضي بإجراء مراجعة شاملة لتشريع الإصلاح المالي دود-فرانك لعام 2010. ويتلخص هدف الإدارة في تقليص حجم الجهاز التنظيمي الذي بدأ العمل به في الاستجابة للأزمة المالية في عام 2008. وهي خطوة محفوفة بالمخاطر.
الواقع أن الملامح الرئيسة في تشريع دود-فرانك ــ مثل زيادة متطلبات رأس المال للبنوك، وتأسيس مكتب الحماية المالية للمستهلك، وتحديد المؤسسات المالية التي تتسم بأهمية جهازية، وفرض اختبارات إجهاد أكثر صرامة على البنوك، وتعزيز شفافية المشتقات المالية ــ عملت على تعزيز النظام المالي إلى حد كبير. وتقويض أو إلغاء هذا التشريع من شأنه أن يزيد إلى حد كبير من خطر تكرار أزمة 2007-2008 المالية في نهاية المطاف.
لا يعني هذا أن التشريعات الحالية لا يمكن تحسينها. وتتلخص الطريقة الأكثر مباشرة للقيام بهذا في استعادة بعض الميزات الجديرة بالاهتمام من الخطة الأصلية التي لحق بها الضعف أو أُبطِلَت على مدار السنوات السبع الماضية. وربما يستفيد تشريع دود-فرانك أيضاً، من الناحية النظرية، من المقايضة الأكثر كفاءة بين تكاليف الامتثال التي تواجهها البنوك والمؤسسات المالية الأخرى وبين خطر عدم الاستقرار الجهازي (في مناطق مثل «قاعدة فولكر» التي تقيد تداول الملكية من قِبَل البنوك).
ولكن تحقيق هذه الغاية مهمة صعبة وحساسة. فعلى عكس ما يتصور بعض العاملين في الصناعة المالية، لا يوجد أي دليل يشير إلى أن ترامب قد يتدبر الأمر على الوجه اللائق. بل على العكس من ذلك، حتى قبل أن تبدأ مراجعة تشريع دود-فرانك، يتعامل ترامب بالفعل مع التنظيم المالي على نحو خاطئ تماماً.
فعندما أمر ترامب بمراجعة تشريع دود-فرانك، قرر أيضاً تعليق تنفيذ ما يسمى قاعدة الثقة إلى حين مراجعتها، وهي القاعدة التي تبنتها إدارة الرئيس باراك أوباما بعد إعداد مكثف. وكان المقصود من هذه القاعدة، التي كان المفترض أن يبدأ العمل بها رسميا في إبريل/نيسان، ضمان عمل المستشارين الماليين والسماسرة المحترفين في صالح عملائهم على أفضل نحو ممكن عند تحصيل الأتعاب في مقابل تقديم المشورة لهم بشأن الأصول المستثمرة من خلال خطط التقاعد.
والحاجة إلى مثل هذه القاعدة واضح. ذلك أن العديد من مستشاري الاستثمار والسماسرة مدفوعون بفِعل تضارب المصالح إلى التوصية بأسهم أو سندات أو صناديق ليست على القدر نفسه من جودة غيرها. على سبيل المثال، ربما يحصل المستشار على عمولة غير معلنة أو «رشوة» بحكم الأمر الواقع في مقابل التوصية بمنتج بعينه. بل وربما يكون مُنتَج الشركة الاستشارية ذاتها. ولأن أغلب المستثمرين يفترضون أن مستشاريهم ملزمون بالعمل بما يحقق أفضل مصالحهم، فإنهم لا يعيدون النظر حتى في التوصيات. والنتيجة النهائية هي ضعف أداء حسابات تقاعد المدخرين.
إن إلغاء قاعدة الثقة لن يؤدي أي غرض غير تعظيم أرباح المؤسسات المالية، على حساب الأسرة الأميركية المتوسطة. ويسوق معارضو هذه القاعدة حجة مفادها أن هذا المتطلب يشكل تجاوزاً من الحكومة، لأنه يحرم الأسر من اختيارات أخرى. وهي حجة مخادعة، لأنها تتجاهل السبب وراء سعي المدخرين إلى طلب خدمات المستشارين الماليين في المقام الأول: مساعدتهم في معرفة الاستثمارات التي تخدم مصالحهم على أفضل نحو.
فبوسع المدخر دوماً أن يختار عدم الاستعانة بمستشار مالي. كما يستطيع أولئك الذين يعتقدون أن حكمهم على الأمور متفوق على حكم المستثمر الاعتيادي أن يقرروا أي الأصول الفردية أو الصناديق المدارة بنشاط تستحق الشراء أو البيع. مثل هؤلاء المستثمرين يستقون المعلومات اعتماداً على أنفسهم ولا يحتاجون إلى مستشار لمدخرات التقاعد يساعدهم في التنقل عبر المجموعة المتنوعة الضخمة من الأصول المالية، والمنتجات، والصناديق المتاحة، وخاصة في دولة مثل الولايات المتحدة.
بيد أن هذا النهج لا يخلو من سلبيات. ذلك أن أغلب المستثمرين الذين ينتهجونه يشترون ويبيعون أكثر مما ينبغي، فيحرقون قدرًا كبيرًا من المال في تكاليف معاملات تراكمية، ويدفعهم تفاؤل غير واقعي بشأن قدرتهم على اختيار الأصول الرابحة أو تحديد التوقيتات المناسبة في السوق.
ويتلخص البديل الذي يوصي به أغلب خبراء الاقتصاد في اتجاه المدخرين ببساطة إلى وضع أموالهم في صناديق واسعة التنوع ومنخفضة التكلفة، مثل صناديق المؤشرات التي تقدمها فانجارد. وهنا أيضا لا توجد حاجة إلى مستشار محترف. الواقع أن التقسيم الموصى به لإجمالي الثروة المالية للأفراد يكون نحو 60% للأسهم، و30% للسندات، و10% للأموال النقدية، وهو ما يعتمد في الأساس على درجة نفور المدخر من خوض المجازفة واحتياجه إلى أصول سائلة.
ولكن العديد من صِغار المستثمرين لا يمكنهم حمل أنفسهم على الاعتقاد بأن صناديق المؤشرات هي أفضل ما يمكنهم القيام به. وانطلاقاً من إدراكهم لافتقارهم إلى الوقت أو المهارة أو الاهتمام المطلوب لاستثمار مدخراتهم بنحو مستقل، فإنهم يسعون إلى الاستعانة بخدمات المستشار الاستثماري. وهم يريدون مناقشة محافظهم مع خبير، مع شخص يمكنهم أن يثقوا في عدم تردده في إعطائهم النصيحة الجيدة. ولكن إذا لم يكن في الإمكان الاعتماد على خبير يضع مصالح المدخرين أولا، فما الذي يجعله يستحق ما قد يحصل عليه من أتعاب؟
بطبيعة الحال، ليس كل المستشارين الماليين يعملون بما يتعارض مع مصالح موكليهم. فبعضهم يطبق قاعدة الثقة في الممارسة الفعلية، فيكسب ثقة عملائه حتى برغم أن القانون لا يلزمهم حتى الآن بالقيام بهذا. ويميل المستشارون الأخلاقيون حقاً إلى دعم قاعدة الثقة التي أقرها أوباما، لأن إزالة المنافسين من عديمي الضمير أمر يصب في صالح أعمالهم.
من هذا المنظور، لا تختلف الصناعة المالية عن تجارة السيارات المستعملة. فالتجار الذين يعارضون قانوناً يمنعهم من التلاعب بعداد المسافات هم في الأرجح الأشخاص الذين يزاولون هذه الممارسة. أما التجار الشرفاء فسوف يفضلون فرض مثل هذا القانون كوسيلة لتمهيد أرض الملعب وضمان تكافؤ الفرص. وهم لا يزعمون أن مثل هذه القوانين تحرم المستهلكين من «اختيار» شراء سيارة مستعملة في ظل شروط احتيالية.
من مصلحة الأميركيين الاعتياديين أن تدخل قاعدة الثقة حيز التنفيذ في إبريل/نيسان، كما هو مقرر. وأفضل خدمة لمصالحهم هي أن تمتنع إدارة ترامب عن العبث بإصلاحات أوباما المالية الأخرى أيضا.
جعل الأزمات عظيمة مرة أخرى
التعليقات مغلقة