عبد الحميد بعلبكي وفطنة الساخر

في «حديث الشيخوخة»
نزار عبد الستار

الإيجاز وفن تبطين الحكمة الساخرة من المع ما أوجده عبد الحميد بعلبكي في منجزه البديع «حديث الشيخوخة» فهذا الكتاب الذي يحتوي على حكايات ونوادر شعبية لبنانية صيغت بتشكيل بارع، وتعشيق سلس بين العامية، وآيات اللغة الفصحى أعطى دفقا جديدا للأدب الساخر، فالتقاطات بعلبكي التي وازنت بين فن القص اللماح، وبين توظيف الشخصية الساخرة، أوجدت لنا منطقة جديدة من الأدب الشعبي، وشكلا مبتكرا من النوادر.
عبد الحميد بعلبكي ( 1940 ـ 2014) في كتابه «حديث الشيخوخة» الصادر عن دار نوفل / هاشيت أنطوان ببيروت، يسهّل علينا اكتشاف العمق الذكي والساخر للفعل البشري في الاحتيال، والتقمص، والمراوغة، وحتى في الاجرام، وهو ينبهنا إلى الطاقات الابتكارية في الشخصية الشعبية، وآلية اشتغالات العقل الفطري، وكذلك التدبر الذي يوجده العوز، والفقر، والغباء.
يمنحنا عبد الحميد بعلبكي طبقات عدة من الاكتشاف، وينتخب النوادر من خلال الواقعة وليس من خلال الشخصية النمطية ذات النسق الواحد كما في ادب النوادر القديم. عبقرية بعلبكي كامنة في رويه الشفاف، وهندسة تراكيبه، والتعشيق الفني بين المحيط اللغوي للشخصية الشعبية، وبين براعة القص، ومجهرية الإيجاز.
إن التكنيك الذي قدمه بعلبكي في هذه النوادر ينطلق من قاعدة النكتة، أو الومضة السريعة التي إذا ما طالت فإنها ستخرب النسيج، وتضيع قوة الضربة الفنية. لقد وظف بعلبكي فن الروي الشعبي في لوحاته القصصية، واعتمد بنية «الحديث» لإيجاد تصنيف مقارب للحقيقة، وهو ان هذه الموتيفات الحكائية هي حديث شيخوخة معززا بهذا قوة شعبية النص في توسطه بين الشفاهي المتداول، وبين الأدب الرصين.
عبد الحميد بعلبكي غطى في حديثه فترات تاريخية حساسة من القرن العشرين، واستعمل الأسماء الصريحة تارة، والأحرف الأولى تارة أخرى، وهو غير منفصم عن الظرف السياسي وتشوهات الواقع، ويدرك تماما أن الأدب الشعبي فعال إذا ما أعيد إنتاجه، فهو يعطينا إسقاطات جديدة، وينبهنا إلى اللذعة الساخرة. ورغم ان محور قصص بعلبكي هي قرية عديسة في الجنوب اللبناني إلا انه جعل من هذه البقعة منطلقا لاكتشاف العالم، فأهل عديسة وصلوا إلى اليمن، والكويت، وفلسطين، وحتى الارجنتين، وهم ببساطتهم، وعفويتهم ينتجون حكمة مبطنة سواء في تدبر العيش، أو في انتهاج الجدية في الظرف الحياتي وكوميديته السوداء.
لقد أعاد عبد الحميد بعلبكي صياغة ذاكرته وفق النسق الشعبي، وأطلق الحكايات التي سمعها، أو عاصر فرادتها بصيغة قريبة من الواقع مستعملا فطنة الساخر الذي يتوصل بنباهته العقلية إلى عمق الحكمة، فالعقل البشري حتى وإن كان غير مغذى بالنظرية العلمية، فانه يتمكن من الوصول الى الحقيقة باستنتاجاته الفطرية، وهذا بالتحديد ما ترتكز عليه الشخصية الشعبية لتكون مشاركة في صناعة الحياة.
أهمية هذا الكتاب من الناحية القصصية تبدو أكثر وضوحا، فإدارة النص جاءت بارعة كونها صنعت عشرات الشخصيات ولم تعتمد على تدوينات سابقة، وتمت معالجتها وفق عناصر القص.
وإذا ما أدرجنا التصنيف السيري ضمن الواقع الذي يحاكى فنيا فان هذه الشخصيات الواردة في الكتاب تنتمي إلى بعلبكي أكثر من انتمائها تاريخ عديسة.
كتاب «حديث الشيخوخة» عمل باهر يضاف إلى انجازات عبد الحميد بعلبكي في الرسم والنحت والإبداع الشعري والنثري وإذا كان هنا قد اقترب من الأدب الشعبي، فانه ترك لنا كتابا قصصيا فائق الصنعة والجمال.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة