كان اتفاق اربيل العام 2012 لجهة تشكيل حكومة شراكة «والحرص على التوازن بين مصالح المكونات» نقطة النهاية لمشروع بناء دولة المحاصصة «الآمنة» على اساس مناسيب القوى الفائزة بالانتخابات، وبسقوطه (وسط تبادل الاتهامات بين اطرافه) سقطت العملية السياسية الموصوفة بادارة التوازن والشراكة وحل محلها، منذ ذلك الوقت، حزمة من التوافقات الجانبية والصفقات، ودخل العامل الخارجي (ايران واميركا) في قلب تلك الحزمة ومفرداتها، وبدل التوازن الذي كان يجري الحديث عنه، اعتُمدت معايير غاية في الغرابة والتعقيد لحساب الحقوق والامتيازات السياسية للقوى والزعامات المتنفذة، وجرى تحديد حجم القوى ومكانتها في السلطة استنادا الى ما تملكه من مليشيات وحظوة خارجية وحيازات على الارض وليس الى محددات الديمقراطية المعروفة.
يجدر ان نتذكر ان لجنة قوامها كل من حسين الشهرستاني وصالح المطلك و روزشاويس تشكلت (في اطار اتفاقية اربيل) لصياغة مفردات التوازن والشراكة، فلم تعقد اللجنة اي اجتماع وفرط عقدها مع انفراط الاتفاقية، وكان هدف زعامات الكتل الفائزة (وفي صدارتها اياد علاوي. مقتدى الصدر و مسعود بارزاني) محاولة ضبط جموح رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي مضى على تكليفه بتشكيل الحكومة ثمانية اشهر، والزامه بتقاسم سلطة القرار، وتضمن الاتفاقية تسعة محاور ادارية وامنية واقتصادية وعسكرية وقانونية.. الخ وقد نشر نصوصها باللغة الكردية موقع «سبه ي» الذي تطلقه حركة التغيير، فيما امتلأ فضاء الاعلام بالشكوك في صحتها والتنصل عن التوقيع عليها، من قبل فريق المالكي، الذي ضاق ذرعا بالضغوط، وأزجى الكثير من الوعود الوردية مقابل تمرير الكابينة.
كان أهم مافي الاتفاقية (في رأيي) محورها السادس الذي يشير الى فكرة التوازن بين فرقاء العملية السياسية ممثلين لـ»المكونات العراقية العرقية والطائفية» موزعا على خمس فقرات حول تشكيل هيئة «التوازن الوطني» وتوزيع المناصب.. وقد سميت باسمائها: وكلاء الوزارات، السفراء، رؤساء الهيئات والمفوضيات المستقلة، المؤسسات العسكرية والأمنية من درجة مدير عام فما فوق (قادة الفرق وديوان الوزارات…) كما قضت بتفعيل دور مجالس الوزارات والهيئات المستقلة وإعطاء الصلاحيات المناسبة لوكلاء الوزارات «لتحقيق الشراكة».
واذا ما تمعنا في كيمياء هذه النصوص سنكتشف ان الاختلال الذي ضرب التوازن في العملية السياسية حدث بفعل انقلاب في تناسب القوى المتنفذة خارج الورق المكتوبة فيه سطورها انعكس في ضراوة الصراع على المناصب وانتهى الى هيمنة المالكي وحلفائه وفرض قبضته على السلطة واذرعها وكل مشيئات القرار السياسي.
معروف في علم الجاذبية والفيزياء انه «عندما يختل الثقل يختل التوازن» ثم ان انعدام التوازن عبر عن نفسه في اعراض اشبه ما تكون باعراض مريض انعدام التوازن، وهي (انتباه): عدم وضوح الرؤية. التشوش. الارتباك. الغثيان والقيء. الاكتئاب. الخوف. القلق، وصعوبة في التركيز.
ومنذ انهيار التوازن كهدف للعملية السياسية فان الحاجة الموضوعية لها انتفت، واصبح الحوم حولها حوماً حول جثة.
يوليوس قيصر:
ما نفعله بسرعة لا نفعله بإتقان
عبدالمنعم الأعسم