جمال جصاني
عبر مراحل طويلة وشاقة اكتسب الاعلام هويته وملامحه وغاياته النهائية التي لم تكتفِ بجعله السلطة الرابعة وحسب بل ارتقى عبر المسؤوليات والادوار المتعاظمة تدريجياً، ليصبح اليوم السلطة الاشد تأثيراً على مصائر وخيارات المجتمعات والامم. لذلك لم يكن غريباً عند الامم التي وصلت لسن التكليف الحضاري، ان ينخرط زعماؤهم المشهورون ورؤساؤهم في مهنة الصحافة والاعلام بعد تقاعدهم او انتهاء مدة عملهم بوصفها المهنة الأخطر تأثيراً في قضايا الشأن العام. وكما هو حال اللسان اذ يكشف عن صحة الانسان وحيويته أو ضعفه ومرضه، كذلك هي الصحافة والاعلام بشتى اشكاله التقليدية والحديثة. وفي مضاربنا التي رزحت طويلاً تحت سطوة الاعلام الشمولي، لا نحتاج الى وقفة مطولة لمعرفة نوع ذلك الارث البائس، لكننا بصدد ما طفح من اعلام ومؤسسات ومنابر ومطبوعات وصحف بعد زوال حقبة القطيع الزيتوني تلك، حيث يصعب على المرء ان يلتقط من ذلك الطفح الهائل للاصوات والكتابات والصور والترددات اعلاماً حراً ومهنياً ومستقلاً وغير مدفوع الثمن..؟
ومن يتابع تطور الاحداث في مشهد ما بعد «التغيير» يكتشف نوع الادوار والوظائف التي لعبتها تلك الوسائل والمؤسسات من صحف ونقابات واذاعات وفضائيات عابرة للهم الوطني. لقد تحول ذلك البلد المغلق والمحاصر داخلياً واقليمياً ودولياً الى جغرافية مستباحة لكل دول الجوار ومابعد الجوار، ودور فقاعة الغاز المتورمة (قطر) مثال بارز على حجم بقية الجيران وادوارهم المتنافرة والمصالح الحيوية لسكان هذا الوطن المنكوب بعراقيي دول الجوار. لقد فرضت فضلات العقائد السامة نفسها على نوع وهوية الاعلام الذي انتظرناه طويلاً بعد زوال النظام المباد، حيث اهدرت امكانات وموازنات كان بمقدورها صناعة بنية راسخة ومتطورة في هذا المجال الحيوي، عندما انطلقت الهرولات الشعبوية للهيمنة على شبكة الاعلام العراقي، ذلك المشروع الذي انحرف عن مساره الطبيعي بفعل تجاذبات المحاصصة وبوصلتها الشاذة، يحتاج الى وقفة شجاعة ومسؤولة كي تعيد الامور لنصابها الصحيح، عبر وضع المصالح العليا للوطن والناس على رأس اولويات الاعلام الجديد، والذي بمقدوره اداء ادوار حاسمة في مجال ترميم الجسور بين شعوب وقبائل وملل هذا الوطن القديم من شتى الرطانات والمنحدرات والازياء. وفي نهاية المطاف لن ينهض بهذه المهمة غير الاحرار من الكتاب والمثقفين والاعلاميين الذين يضعون نصب اعينهم وضمائرهم قضية الوصول الى المعلومة وتقديمها بعيداً عن المسخ والتزيف وحظائر الاعلام مدفوع الثمن.