«تحت سماء الشيطان».. كيف نجا قيس حسن؟

خالد مطلك

المهم عندي من كل الأحداث الرهيبة التي دونتها ذاكرة عارفة مثل ذاكرة قيس حسن هو كيف نجا قيس بنفسه، ليس من آلة الموت متعددة الوجوه فحسب، بل من الوقوع كضحية مريضة تحت سماء الشيطان المخيفة.

كيف تعافى هذا الطفل الذي شهد الدكتاتورية من لحظة صعودها المروع حتى دخولها إلى الحي الذي يعيش فيه ثم مدرسته فبيت عائلته فحياته الشخصية. 

مرة تأخذ بأقرب أصدقائه إلى الموت ( دفاعاً) عن الحدود، ومرة أخرى مباشرة إلى المشنقة.

كيف تسنى لهذا المراهق أن يقف في مشتبك نفسي بين لحظة متعالية تمثلها عمامة رجل دين يقود ثورة تضع الحلم التاريخي في الخلاص عند عتبة الروح وبين واقع دفع بمخبري الدكتاتور عن عتبة باب البيت.

كيف أتيح لهذا الشاب، أن يقفز فوق التصورات العاطفية الخيالية والواقع الشديد الشراسة ويدون قصتنا الاجتماعية وخرابنا النفسي فصلاً بعد فصل وقصة بعد قصة ووثيقة بعد وثيقة من دون أن يكون واحداً مثلنا بالتحديد.

سؤال جوهري يجب أن نطرحه عن معنى أن ينكشف الكاتب على آثار الأدران الأخلاقية التي تسربت إلى روحه ويمارس بإزائها عملاً تطهرياً مثالياً، لماذا وكيف يكون هناك قيس حسن معافى في هذه المجزرة الروحية؟ 

كيف يمكن أن يكون المرء تطهرياً في منطقة الكمالية تلك البقعة الإشكالية ثقافياً في الجغرافية البغدادية، ذلك الهامش الغريب من الوجود الإنساني المعقد، بين بقعة بيع المتعة التي يوفرها الغجر من مواطني الدرجة العاشرة والتزمت العشائري الذي ينتمي لقرون الظلام، بين كتاب ابن طاووس وخطب القائد، بين شرطي يمارس التعذيب الإنساني بأكثر أشكاله بربرية على جسد عجوز غجرية أمام صمت المجتمع وربما ترحيبه .. كيف استطاع قيس حسن أن يكشف عن وجه صديقه القتيل وهو يخطو نحو جسده المسجى بخطوات خائفة ليعلن أو يؤكد موته ليمنح أهله حرية العويل. ويمنح ذاته حرية السؤال ؟

كل الأحداث التي سجلتها هذه الذاكرة الشرسة لا يمكن أن تعدنا براوٍ طبيعي وإنسان سوي وسليم كتب عليه القدر أن يعيشها وكتب هو على نفسه أن يخرج منها ليبقي عليها حية ماثلة، كي لا يذهب بها النسيان لتستحيل إلى قانون مقبول متواضع عليه اجتماعياً.

قيس حسن وفي كتابه ( تحت سماء الشيطان ) كان النفحة الرحيمة في ذلك الجو التراجيدي المهول، كان الضمير الحي في قصتنا والإنسان غير المشوه في حكايتنا.

ليس هناك سر سماوي في هذه القصة، لم يكن قيس حسن نبياً اصطفاه الله في مجتمع وثني، السر هو انه قرر أن يعترف بآثار الدكتاتور الذي فيه، قرر أن يكتشف فايروسات (صدام) التي دخلت خلايا وجدانه، ثم قرر أن يتعافى منها و يمنح روحه جرعات علاج مرة ومريرة، ومن بينها هذا الكتاب الذي هو شهادة صحية على سلامته من أعراض التفسخ الروحي التي تركها الدكتاتور إماتة في أرواحنا وغادرنا وهو يبتسم لحبل المشنقة.

من لا يعرف ( معرفة حقة) قصتنا مع الدكتاتورية سيظل يعيش توهاناً أبدياً في فهم ما نحن عليه الآن.

كاتب كبير آخر، يساعدني على فهم نفسي، يساعدني على تفهم مجتمعي، يساعدني بأنموذجه الشخصي على إبقاء باب الأمل مفتوحاً .. 

المجتمعات الصحية هي المجتمعات التي تسمح بوجود كاتب من مثل قيس حسن يساعدها على تخطي مشاكلها العميقة ولو من خلال كتاب صغير الحجم عميق بمعانيه.

والمجتمعات الأكثر صحية هي التي تجعل من هذا الكتاب منهجاً دراسياً مقرراً لكي يعيد عليها قصة يجب أن لا تنساها، كي لا تسمح بسردها مرة أخرى وبنسخة أخرى من قبل الأجيال المقبلة التي ربما لن يتوفر لها راءٍ مثل قيس حسن.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة