المعرفة الجديدة !

محمد زكي ابراهيم

في وقت مبكر من تاريخ البشرية، أصبحت حياة الإنسان تعتمد على قوى ثلاث، هي المعرفة والاقتصاد والقوة السياسية. وقد ازدادت الصلة بين هذه القوى رسوخاً في العصر الحديث حينما أسهمت المعرفة بابتكار وسائل جديدة دعمت مركز الاقتصاد، ومنحته القدرة على تغيير شكل الحياة على الأرض، تغييراً جذرياً.

ولعل أهم ما قدمته المعرفة البحوث الخاصة بالطاقة، التي أضافت الكثير لقدرات الإنسان، حتى توصل لاكتشاف قوة البخار، واستخدمها في تسيير القطارات. وكانت تلك اللبنة الأساس في الثورة الصناعية. وفي القرن التاسع عشر وهو قرن الاكتشافات العلمية الكبرى، بدأ البحث عن العناصر التي يحويها كوكب الأرض. وقد اتضح أن بينها العديد من العناصر المشعة، التي فتحت المجال أمام استخدامات الطاقة النووية.

إن هذه الإنجازات العلمية أحدثت زيادة غير مسبوقة في عدد السكان، حتى تضاعف أكثر من مرة في القرن العشرين. ولم تكن هذه الإنجازات تخلو من جانب ثقافي. فقد صاحب تحسن ظروف الحياة تغيير شامل في التفكير. ولم يعد الناس مجرد كائنات تأكل وتتناسل، وتجمع الأموال، وتلوث البيئة. بل تقوم بتوجيه الأنظار إلى القيم الرفيعة التي تجعل الحياة أكثر أمناً ورفاهية.

وهكذا ترافقت حياة الناس في أوربا، مع إرهاصات عصر النهضة. وابتدأ ذلك في الفن. حتى أن بعض العلماء كانوا فنانين أيضاً. وربما تعود جميع معلوماتنا عن القرون السابقة بما فيها الاكتشافات العلمية، والثورة الصناعية، إلى ما دون من كتابات أو ما أنتج من لوحات. فالمعرفة واحدة لا تتجزأ.

بل أن المطالبات التي رفعها العمال إلى السلطات بإنصافهم من أصحاب المصانع، إنما كانت جزءً من النظام الثقافي الذي قادته النخبة. فالثقافة كانت في الأصل نضالاً من أجل تحسين ظروف العيش، وجعلها أكثر يسراً وإقناعاً. وكلما زاد عدد السكان، كلما زادت الحاجة إلى الاهتمام بهذه الظروف. أو زيادة نصيبها من الإنفاق العام.

إن هذه المعادلة تعكس كيف يصحب التطورَ التقني  تطورٌ اجتماعي، وكيف يتناسب هذا مع زيادة الموارد. فالمال هو المحرك الأكبر للنشاطات العقلية، مثلما هو الأساس في التقدم العلمي. وقديماً كان الملوك والولاة ينفقون على العلماء دون وسيط بغياب المؤسسات الرسمية. إلا أن هذا الأمر لم يعد مقبولاً الآن.

ربما تبدو مثل هذه الصورة قاتمة في بلداننا العربية، فازدياد مدخولات الدولة لا ينعكس، إلا في أحوال نادرة، على عملية إنتاج الثقافة. بل أن الأخيرة هي أكبر متضرر في الأزمات والحروب والمشاكل المالية. لأنها لا تدخل ضمن الاحتياجات الضرورية للناس.

علينا أن ندرك أن ما يصلنا من الغرب من نظريات وأفكار ومصطلحات واتجاهات ومذاهب لم يأت من فراغ. بل لأن جزءً من الإنفاق العام صرف في هذا السبيل. وإذا لم نتدارك نحن مثل هذا الأمر فإن من العسير علينا أن نتوقع نهضة حقيقية، أو نفكر في تغيير جدي يطال حياتنا المعاصرة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة