ما وراء الصورة

هند الخيكاني

في بيت أحد الأقارب وخلال زيارة عاجلة بداعي الواجب وصلات الرحم ، كانت هناك صورتان عائليتان على الجدار ، الصورة الاولى يظهر فيها الأب من اليمين ثم البنت ، بعدها الصبي الذي يصغرها بسنتين ، ثم الأم على جهة اليسار ، وهي صورة مثبتة جيدا ، ولا تزال تحافظ على مكانها قبالة موضع العين وتسر القلب.

في الصورة الثانية كانت هناك الأم على جهة اليمين ، البنت كبرت الى عمر المراهقة ، الصبي دخل العاشرة ، ولا وجود للأب.

كانت الصورة الثانية تظل مائلةً نحو اليسار والأسفل دائما مهما حاولوا رفعها بالمسامير والخيوط . ولا أحد عرف علة تلك الصورة . وتفاقمت المشكلة الى حد أنهم كلما التقطوا صورةً عائلية جديدة وفي ذات الترتيب الذي يقفون فيه كما في الصورة الثانية ، كانت تميل بنفس الطريقة والى ذات الجهة . حتى أصبح ذلك الجدار بمرور الوقت أشهر من جدار برلين ، وجدران متحف اللوڤر في البلاد.

عندما عاد الأب من الأسر ، وقد أكلت منه الحرب الإيرانية _ العراقية ما أكلت ، رحّبت به عائلته وخفّفت عنه بالحب والاحتواء والمناسبات الاحتفائية، والتقطوا عندها صورةً عائليةً جديدة ، صورة تشبه أول صورة عائلية التقطت بكاميرا أحد الأقارب ، فكان هناك الأب ، البنت ، الشاب ، الأم ، وعندما علّقوها على الجدار، لم تتزحزح ولم يشعر أفراد العائلة كما لو أنهم يسقطون الى ذلك الجانب كما في السابق، والمفاجأة غير المتوقعة ، أن تلك الصور المائلة ، جميعها عادت ببطء الى وضعها الطبيعي. بعد أشهر من عودة الاب تعرضت الأم لحادث دهس وماتت . في العيد حين التقطوا صورة  عائلية وقف الاب من جهة اليسار ثم الشابة فالشاب ، وعندما ثبتوا الصورة، ظلت الصورة مائلة نحو اليمين ، تبدو للناظر وكأن أفراد العائلة سيسقطون في أي لحظة من الجدار.

حُجُب

ذات يوم أعطتني جدتي ورقةً صغيرةً بحجم جيب القميص ، مكتوبًا عليها كلمات تشبه الكلمات التي نقرأها في الأدعية والمناجاة ، وقد شغلت تلك الأحرف بطن الورقة وظهرها ، ثم قالت لي:

أنت تريد أن تعرف أكثر مما تتيحه لك حواسك ويسمح به عمرك . إذن اقرأ هذه الورقة يوميا لمدة أسبوع ، وسترى ما لم تتوقع أن تراه في حياتك .

ضحكت منها ومن كلامها ، ولكني كنت جادا بخصوص معرفة بواطن الناس وما يختبئ تحت الجلد والعظام وتلك التقاسيم المعبرة عن الغضب ، السعادة ، الحزن ، المكيدة وغيرها.

كنت أفور من الحماس ، ولهذا بدأت من أول ليلة ، قبل النوم أخرج الورقة من جيب بيجامتي الرياضية ، و أقرأها ، ثم أضعها تحت وسادتي ، بعدها أخلد الى النوم .

بقيت على الجدول المتفق عليه كما أوصتني جدتي ، وكي لا أغفل الموعد في زحمة انشغالي بالدراسة أو انغماسي بمشاهدة أحد الأفلام ، كنت أختار تحوّطًا تشغيل المنبّه في النقّال كي يدق في وقت يسبق ميعاد نومي بقليل .

هكذا واظبت على تلك التعليمات الدقيقة دون تلكؤ ودون اخبار احد . غدًا هو اليوم السابع والاخير ، أكملت قراءتي للورقة ، ولم أحتج الى المنبّه كي يذكّرني فهو اليوم المنتظر . استيقظت وشعور الراحة يملؤني ، وهناك نشوة تحرّضني على اختبار التجربة ، واكتشاف حقيقة ما قالته الجدة .

فقلت لأجرب داخل البيت أولا ، وبدأت أقترب منهم واحدا واحدا ، الكبار والصغار ، العمّات والأعمام ، الزوجات والابناء ، ولكنّي لم أستشعر شيئًا ، ولا أية علامة أو إشارة تمكّنني من الاستدلال على نجاح عملية الورقة الصغيرة.

فقلت ربما لأننا أقارب من دم واحد لن يعمل معهم الأمر ، قدمت لنفسي هذا العذر المقبول ، ولذا وجّهتُ التجربة من جديد الى مكان آخر ، وبدأت من خارج البيت مع الجيران تحديدا ، وقد لمحت جارنا أبو همسة سيء الصيت بسبب مشكلاته التي لا تحصى مع زوجته وأهلها ، وإفراطه في شرب الخمرة ، قررت أن أبدأ معه ، فنظرت إليه طويلا ، ثم اقتربت منه وكنت أتحجج بأني أتتبع بلبلا فرّ من القفص ، وها هو يقفز من غصن شجرة رمان الى غصن شجرة نارنج ، ولكنّي وللأسف لم أستطع رؤية صورة أخرى غير تلك التي أعرفها ويعرفها الجميع عن جارنا الشرير.

ثم ذهبت الى السوق حيث الحشود والناس أشكال وألوان في مثل هذه الأماكن، وصرت أركّز مع من أختارهم لأمساك خيوط عن حيواتهم المظلمة ، وما يخفونه تحت تلك الابتسامات والحركات الوديعة ، وبقيت أجرّب حتى هبط الغروب بكامل ثقله على الرؤوس ، ولم أصادف حدثا غريبًا من شأنه إرضاء فضولي وتطلّعي.

في البيت ، رمقت جدتي بنظرات ملؤها العتب والتوعد وأنا جالس على الكنبة ، بينما هي كانت تصلّي المغرب ، وتحاول أن تتجنب وجودي وكأنها لا تراني ، على الرغم من أنني لمحتها وهي تسرق لمحةً بطرف عينها اليسرى وهي تقرأ الدعاء رافعة كفيها:

“اللهم اغفر لي ولوالديّ وارحمهما كما ربيّاني صغيرا “

في ذلك الوضع أمسكتها ، وعلمت في داخل نفسي أنها تعلم بكذبتها ، إذن هي تفكر في حيلةٍ ثانية تضحك بها على صبي مثلي . فأنا مجرد شقي آخر من أشقياء هذا البيت .

انتهت جدتي من صلاتها ، التقطت المسبحة ذات الخرزات الطينية المنقوشة بالكلمات المقدسة الملّونة بلون جوزيّ ، وانطلقت في رحلتها القصيرة مع العد والتسبيح ، قبّلت التربة مرتين ووضعتها على جبهتها ، ثم أعادتها الى موضعها على السجادة.

وجّهت وجهها المستلقي في السكينة والهدوء نحوي ، ثم أخبرتني:

يا عزيز، كنت مثلك ذات يوم ، أفكر بمثل ما تفكر ، كنت أيضا أرغب بمعرفة ما يجول في خاطر فلان وعلّان ، كي آخذ حذري منه وأسبقه بخطوة ، فلا أكون ضحيةً لمكيدة ما ، ولكنّي اكتشفت لاحقًا بأنهم جميعًا كانوا يفكرون بنفس طريقتي .

نحن جميعا قلقون يا عزيز ، قلقون وجميعنا ضحايا . فكم من فكرة سيئة تولد وتموت داخل رأس صاحبها دون أن يعلم بها أحد!

خفت قليلا ، إذ تملّكني شكٌ لبضع ثوانٍ بأنها ربما رأت ما كنت افكر به قبل قليل.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة