ابراهيم خزعل خليفة العبيدي
يأتي التقابل بين الصمت والكلام ضمن تقابلات عدة لعل أهمها التقابل بين الحركة والسكون أو بين الفراغ والامتلاء، أي بين فضاءات تشملها علائق ودية يحويها الصمت، وكوْن يسودها انعزال محتوى بعلائق سطحية “تغمرها ثرثرة المتأدبين الكاذبة”، يمكن للمرء فيها أن يكوّن ترابطات وعلائق مع الجميع من غير أن تربطه بأحد.
وهكذا يغدو التقابل بين فضاءين: فضاء تسوده السطحية وسط صور خادعة يغلفها الضجيج مع ما تفرضه من علائق بين البشر فيما بينهم، وآخر يريد أن ينفلت من ذلك العالم ويتجاوزه بأن يكسب راحته.
ولذلك سرعان ما يتخذ التقابل المذكور شكلًا آخر، ويغدو تقابلًا بين فضاء يتخذ فيه الصمت مساحة قدسية ونال منزلة الفضيلة بوصفه اتجاه لصفاء النفس، فتحته للفكر والتبصّر فيه وطريقة منولوجية بين الأنا والذات، وإذْ كان ابراهيم نصر الله قال “كان الصمت مساحة من ظلام شاسعة لا يستطيع اضاءتها ألف قنديل”، فهو بالضد من المسلك الذي سار فيه المتصوفة وعدوه مقامًا لرفعة الروح وسموها.
وعلى المنوال نفسه نجد تصوير فلاسفة الجمال انّه من أسمى وأرقى صور على الاطلاق؛ لأنّه ينتقل بالنفس إلى كوْن الطمأنينة والهدوء ويطهر رغبتها بنظرة الحياة في مختلف اطوارها، فثقافة الفراغ أو الخواء أو لحظة أو وقت الصمت في الفنّ عمومًا يضفي ما تعجز ريشة الفنان أو اشارات عصا المايسترو عن الوفاء به، وهذا ما نجده في قول ألدوس هكسلي (فنان وكاتب 1894_1963) ” الصمت ليس فارغًا، الصمت مليء بالأجوبة”، الأجوبة التي تضيف جماليّة على جمال أنواع الفنّ.
ونقيض هذا الرأي اصحاب التحليل النفسي إذْ يحمل الصمت دلالة الاغتراب والخوف من المجهول أو شعور القلق فهو عندهم سلوك انفعالي غير سار حيال مكمن مجهول عند المقابل، قد يؤدي إلى اعاقة النشاط الإنساني أو الاكتئاب، فهو عزلة وانسحاب من مشاركة تفاعلية الحياة ورفض واعتزال وانفراد مجتمعي، فـ “الصمت دائمًا ما يقود إلى الحزن؛ لأنه صورة من صور الموت” جان جاك روسو (فيلسوف وفنان وكاتب 1712_1778)، تلك هي مهمة التي ينيط بها الفيلسوف وهي مهمة من شأنها أن تنقلنا من الصمت إلى الحزن، ومن الحياة الموهومة إلى نهاية حتمية، فتأخذنا من فضاءات الكلام والضجيج بما يسوده نمطية خداعة لا تنقطع ما فتئت يغذيها عدم الفهم، وما يعمها من حوارات زائفة وانسجام قطيعي وعزلة حقيقية ” نرتبط فيها بالجميع من غير أن نرتبط بأحد”، ونتصل كل لحظة من غير أن نتواصل، تنقلنا إلى كوْن يدفعنا إلى لأن نعيش التفرّد المكتسب، ونولج في حوارات شاسعة لا مع بعضنا البعض فحسب، وإنما مع “جوهر الأشياء كلها” كي نتجاوز الفضاء الذي يحدد علائقنا فيما بيننا.
لا مانع إذن أن يعمد الشخص إلى قوة الصمت وغموضه في بعض الأحيان، كيف لا والإنسان كان مترع بالمشاعر والاحاسيس يواجه حياة أشبه ما قد تكون (أصبحت غابة) فيها من الوحوش والكواسر ما قد يهشم تلك النفوس ويخدشها، وقد لا تجد هذه النفوس من يفهمها فلتجأ إلى الانزواء والانفراد في العيش لكسب شيء من راحة الفكر والروح.
وقد يحمل الصمت دلالات ومعاني مختلفة تتعد مع تباين السياقات وتعامل الناس، فهو قوة ينزع الإنسان بها إلى سلوك قيم اخلاقية تسمو بصاحبه إلى الوقار، ويتجه الصمت بمدركه إلى الحكمة في أغلب احواله ولهذا قال عنه أرنست همنغواي (فنان وكاتب روائي 1899_1961) “يحتاج الإنسان إلى عامين لتعلم الكلام، وستين عامًا ليتعلم الصمت”، فالصمت يحتاج إلى موهبة، موهبة تتجه بصاحبها إلى رؤية للأشياء المختلفة التراكيب والكلمات العبثية والأفكار المقلوبة المدانة، فهو حكمة وفلسفة يحمل بلاغة ودلالة أكثر مما يحمله البوح، فكثير من اللوحات صامتة لكنها تحمل دلالة لو كتب كتاب لا يوازي خطوطها، وقد يكون هناكَ شيء مشترك ما بين فلسفة الوجود أو القيم الانطولوجية للحياة وما بين اللغة الإنسانية لا يتمكن من فهمه إلّا مدرك الصمت الذي يحمل نفس شاركت الأنين الروحي والهم الفكري للابتعاد عما يستتر خلف اللغة من ميكانيزما الصخب والدمار الذي أحدثته البشرية، فكوْن الصمت هو طريقة للاستعمال القداسة في كل شيء يمت له بصلة من زمكانية أو روحية لغوية، وقد يكون مجابه لخيبات منيت بها النفس حتى صار لزامًا الانتقال من جانب إلى آخر، فالصمت هو الكلام الذي لا يفهمه إلّا لمدرك هذه الفلسفة يحمل من الوظائف والغايات والإدراك ما يعجز التعبير عنه.