د. حمادي كيروم
أصبح من المشروع اليوم، وفي ظل الثورة الرقمية وتطور تكنلوجيا الاتصال وشمولية شبكة الانترنيت. أن نطرح السؤال الساخر الذي وضعه بول فاليري في وضعية أخرى : “إلى أين يسير النقد السينمائي اليوم ؟ إلى حتفه من دون شك“.
وإذا حاولنا في هذا السياق أن نسأل تاريخ الفكر. سنجد أن هيجل كان قد أعلن “موت الفن “، وهو في حضرة الكبير جوته، وعلى علم بأعماله. غير أن هيجل أحس بفكره الثاقب أن الفن لم يعد قادرا على حمل المطلق والقضايا الكبرى، فانصرف إلى اليومي والدرامي. وبهذا اقترح هيجل، أن المتاحف وحدها أصبحت حاملة لهذا الفكر، في حين أن ما ينتج اليوم، لا علاقة له بالروح والحقيقة، التي هي موضوع الفن، في نبله وسموه وجماله.
إن الرؤية النقدية، بشكل عام، ظلت محكومة بالرؤية السينفيلية الفرنسية، أي ” نموذج مابعد بازان و داني و تيسون “. وهي رؤية نتاج وضع تاريخي سياسي إديولوجي فكري واستثيقي. وقد أسست مجلتا les cahiers du cinema و Positif ، تكتلا من النقاد والسينمائيين والمفكرين، ظل يتأرجح على محورين متعارضين أحيانا ومسالمين أحيانا أخرى، من أجل تحديد وتعريف، بل وخلق الوضع الاعتباري للسينما وللفيلم وللنقد والناقد، بوضوح ويقينية لا يشوبها غموض أو تردد أو التباس.
إذا افترضنا أن تكنلوجيا التواصل، قد تودي بالذهاب بالنقد السينمائي الى حتفه، فان السينيفيليا الجديدة والاستهلاكية الفرجوية الفردية، التي تعتمد في مشاهداتها، على ما أحدثته الثورة الرقمية من انفجار على مستوى الوسائط مثل : Facebook، Google Youtube، Amazone، وغيرها من المواقع العامة والمتخصصة والمنتديات وكل الروابط التي تسبح في مجرة شبكة الانترنيت ، والتي جعلت من الفيلم “الحاضر الأبدي ” وجعلت من كل الناس نقادا. حيث أصبح لكل إنسان عملان، كما قال فرنسوا تروفو: عمله الأصلي الذي يشتغل فيه وعمله كناقد، لأنه يعلق على الأفلام ويقومها حسب ذوقه. كل هذا يعلن بداية التحول الجذري في الاستهلاك التقليدي للفيلم السينمائي، المرتبط بطقوس القاعة والشاشة الكبرى والحلم الجماعي. إننا نشاهد موت مرحلة وميلاد مرحلة أخرى. موت عالم الصناعة التقليدي، المدعم بالمؤسسات والنظام والتراتبية ، لصالح عالم الانترنيت السري والعلني المبني على الفوضى الجميلة المتشكلة من الحرية والاستقلالية والقرصنة والاستعجال والمشاهدة الكونية للفيلم نفسه وفي الوقت نفسه والتعليق والكتابة المستعجلة والكتابة على الكتابة. ان هذا الزلزال الذي سيدمر التوزيع الرسمي للمنتج الفيلمي ، هو نفسه الذي سيدمر اركان النقد التقليدي ومقدساته ، وسيفتح الباب واسعا امام ” نقد جديد “
السؤال النقدي والمشروعية
إن المتتبع الدارس للحقل النقدي السينمائي، سيلاحظ أن السؤال النقدي حقق مشروعيته، عبر مجموعة من المنابر الورقية، بالانتقال من الذاتية إلى المهنية ومن النظرة إلى العلامة ومن التلقائية إلى الخبرة، مما سيدفعنا الآن في مرحلة النقد الرقمي الافتراضي، إلى إعادة وضع السؤال، حول المشروعية النقدية وحول كيفية تأسي وبناء فضاء نقدي له مصداقية ثقافية ومهنية .
إن المجلات النقدية الورقية، قد حققت هويتها النقدية، بوصفها فضاء لفكر جماعي وتكتل مهني، وهي في جوهرها مكان لفكر في طور الاشتغال المستمر. إنها ترسم من خلال النصوص والآراء التي تنشرها، “سياسة استثيقية”، تسعى إلى أن تتقاسمها مع قرائها بعرضها على الرأي العام الثقافي والدفاع عنها. وقد تصل الخلافات والصراعات أحيانا بين فريق التحرير إلى قمتها، مما يؤدي أحيانا إلى تغيير الأسماء والأساليب، ولكن الخط التحريري العام، يظل ثابتا لا يتغير. إنها “الماركة” التي تحدد سياسة الكتابة والرؤية الفلسفية والجمالية للخط التحريري العام.
واذا كان الفضاء النقدي، بالنسبة للمجلة الورقية، محددا وواضحا ومرسوما من خلال أرقام الأعداد المتسلسلة، فإن الفضاء النقدي ، بالنسبة للمجلة الرقمية، لا محدود ولا يحتاج إلى نظام مؤسساتي لتنظيمه وتدبيره .
في ظل هذه التحولات السريعة والمفاجئة، كيف نؤسس للفكر النقدي داخل شبكة الانترنيت ، التي تسمح لنا من خلال مجلات رقمية مثل: Débordement ، Cinématraque ، Feux croisés ، Revue Zinzolin ، Critikat ، Indépendencia ، أن ننتقل ، وبكل سهولة ، بين عدة فضاءات، في وقت سريع ، وأن نشاهد الفيلم نفسه ونقرأ ما كتب حوله، هنا والآن. ولمسايرة هذا التحول الوسائطي، خلقت بعض الجرائد المهمة مثل Le Monde و Libération نسختها الرقمية، لتحافظ على قيمتها الاعلامية والتواصلية، مع قرائها القدماء والجدد، ضمن هذا التحول الجذري.
وتتميز مجلة Indépendencia، التي أسسها اوجنيو رينزي ، الذي كان محررا بمجلة ” دفاتر السينما “، بمعية أنطوان ثيريون ، بخط تحريري محدد، بينه رينزي من خلال ،” مانيفيست النقد الجديد ” ، المبني على مبدأ “النقد الحربي ” critique de guerre، الذي يتأسس على استراتيجية تحديد الصدقاء والحلفاء والأعداء، وتدقيق خطوط الدفاع وخطوط الهجوم، من أجل” نقد استعجالي “critique d’urgence، يجعل النصوص النقدية الرقمية، تتكتل، لخلق فكر نقدي، ديناميكي، عنيف، متحالف مع المهمش واللامركزي، مقاوم، ضد العابر والمنسي.
نقد السينما ونقد الافلام
إن المتتبع للانتاج السينمائي العالمي، سيلاحظ أن الألة الانتاجية، تعرض كثيرا من الأفلام، ولكن قليلا من السينما. لأن السلوك الاستهلاكي لزبائن الفرجة الجماعية أو الفردية، يتطلب ماركة معينة من الأفلام، تدخل في ما سماه جي دوبور ” بمجتمع الفرجة ” من أجل اشباع شراهة العصر.
ولا شك أن الكتابات النقدية الرسمية، أصبحت بدورها، ترزح تحت سلطة الكتابة الاستهلاكية، الخاضعة لدفتر تحملات الشركات والجرائد، مما جعل بعض الباحثين في مجال التنظير النقدي، يميز بين نوعين من النقد : النقد الفيلمي والنقد السينمائي.
يتميز نقد الفيلم بطبيعة وصفية صحفية، تشتغل على الفيلم في حد ذاته، كحالة خاصة، منفصلة، بغض النظر، عن علاقته بالأفلام الأخرى وبالسينما. يسعى النقد الفيلمي إلى مرافقة الفيلم إعلاميا من أجل دعمه وانعاشه بالتواصل مع جمهور القراء والمشاهدين
ويتميز نقد السينما بكونه نقدا سياقيا، يموضع الفيلم ضمن، وسط تفكر عام في السينما وتاريخ السينما وتاريخ الفن. التفكر في الأجناس الفيلمية ونظريات واتجاهات السينما، في الكتابة السينمائية والسينماتوغرافيا، في الأفلام التي ينتمي إليها أو يتعارض معها. بناء عليه، يأخذ النقد السينمائي مسافة من الفيلم، ليبني خطابه على مرجعيات معرفية وفنية وجمالية ، تتأسس على النظرية السينمائية وفروعها المعرفية المتعددة والمتنوعة .
على ضوء هذا الاتجاه، أصبح من غير الممكن قراءة فيلم “حمامة …” لروي أندرسون، من دون الرجوع إلى لوحات اوطو ديكس، التي استلهم منها روي اندرسون تركيب مشاهده ولقطاته المتوالية. كمالا يمكن فهم أفلام أندرسون، من دون فهم محاولة هذا الأخير، تكسير قاعدة البعد الدرامي، التي أسسها مواطنه السويدي انغمار بيرغمان، والمبنية على سبر أغوار الشخصيات وسيكلوجيتها الداخلية، من أجل تطوير الأحداث وبناء سيرورة الفيلم. في حين يسعى روي اندرسون إلى قلب القاعدة وخلق المعنى، من خلال العرض الخارجي، المرتبط بخلق الصراع بين الشخصية ومحيطها الخارجي، انطلاقا من الفضاء وتركيبه والميز اونسين وتمثلاتها.
وقد سهلت شبكة الانترنيت، الانتقال بين كل المواقع، لترحيل النصوص ومقاطع الأفلام، من أجل المقارنة والتشخيص والاستشهاد . مما جعلنا أمام ظاهرة جديدة من النقد. يمكن أن نطلق عليها “النقد المرئي المقارن”
النقد المرئي :
يمكن أن نعد الأعمال التي يقدمها جورج ديدي هوبرمان على اليوتوب، هي المؤسس الحقيقي لتيار النقد المرئي. اشتغل هوبرمان على فيلم المدرعة بوتمكين لازنشتاين. وحاول وهو يطور تيمة التمرد أو الحراك ” soulévement ” . أن يوظف دينامية المونتاج وايقاعه ، عبر التداخل بين اللقطات، واستدعاء بعض اللوحات التشكيلية لغويا وآخرين . كما اشتغل كذلك على أعمال بيير باولو بازوليني تحت تيمة ” الشعر والسينما والسياسة ” وقد استطاع من خلال الحفر في فيلم “السعار “، ان يكشف عن القوة التركيبة، التي بنى بها بازوليني هذا الفيلم. معتمدا على إعادة تركيب مادة الأخبار المصورة، وتضمينها مقاطع من قصائده الشعرية. خالقا بذلك انشطارا، بين ما تقدمه الصور وما تقوله القصيدة وما يشرحه التعليق. وقد بين هوبرمان كيف يمكن للانزياح التركيبي، أن يفجر المواد الأصلية للعمل الفني، وأن يجعل من اللامرئي الطاقة المحركة لكل ما هو بصري .
إن أعمال ديدي هوبرمان، تفتح أفقا جديدا للحس الجمالي، والفكر النقدي، من خلال تعميق البحث في حفريات الصور السينمائية والنصوص الشعرية، واللوحات التشكيلية، من أجل البحث والتنقيب عن المعاني الثاوية في ثنايا الصور والنصوص، وخلق علاقة ديالتيكية لبناء هارمونية الاحساس والتفاعل المبدع والخلاق.
نستنتج من كل هذا، أن المؤسسات النقدية، التي هيمنت على الساحة النقدية، طيلة هذه المرحلة التاريخية. قد كرست وضعا اعتباريا، جعل من النقاد المحترفين، يسكنون الأفلام، مثل الوكلاء العقاريين، ويحتكرون مفاتيح سوق البورصة النقدية. غير أن مجيء الانترنيت، هدم البيت على أصحابه، وبشر بغروب الأوثان، ونزع الخارطة من أيديهم، وجعلها في متناول” السينيفيليا الجديدة “، الحرة والمستقلة، التي تنتقل من اكتشاف الفيلم إلى اكتشاف العالم. غير أن شبكة الانترنيت التي دمقرطت الفرجة في الزمان والمكان، قد أعطت الكلمة لظاهرة تعدد الشبيه، وظهور التناسخ المعلوماتي والفورمطاج الصناعي والسينيفيليا المنشقة. إنه رهان التحول من العصر الورقي المادي إلى العصر الافتراضي اللامادي. فمرحبا بالفوضى الخلاقة.