لقد ضمت حركة الاحتجاجات التي دخلت شهرها الرابع، شرائح وفئات اجتماعية مختلفة، لذلك فقد تنوعت خارطة مطالبها، لكن ومما لاشك فيه فان تظاهرة اصحاب الشهادات العليا، والذين خرجوا من أجل المطالبة بالحصول على الوظائف في مؤسسات الدولة، قد شكلت الشرارة لتصاعد حدة ومساحة الاحتجاجات، لا سيما بعدما تعرضوا له من اعتداء فظ من قبل قوات مكافحة الشغب.
وبالرغم من اضطرار الحكومة لاحقا لضمهم الى جيشها الجرار من الموظفين، الا ان التظاهرات كانت قد ولجت الى أطوار لم تستوعبها طبقة حكام عراق ما بعد “التغيير”. بالرغم مما تشكله الاعداد الهائلة للموظفين الحكوميين (أكثر من اربعة ملايين موظف وثلاثة ملايين متقاعد) من عبء ثقيل على حاضر ومستقبل “الدولة العراقية”، لكن الطبقة السياسية المهيمنة على مفاصلها الحيوية، مصرة على استعمال هذا السلاح المميت “التوظيف” كخشبة خلاص من بحر ما انتجته سياساتها وقراراتها من مشاكل وازمات تتفاقم يوماً بعد آخر. كما انها ومن خلال المعايير التي استعملتها لتوظيف القوافل الجديدة، اكدت بانها لم تتعظ بكل ما يتربص بمصير هذا الوطن المنكوب، وما زالت مصرة على التمسك بثوابتها ومعاييرها التي اوصلتنا لكل هذا الحضيض.
لقد تحولت “الوظيفة الحكومية” المدنية منها والعسكرية؛ الى ما يشبه الحلم الذي يدغدغ عقول وتطلعات غالبية العراقيين، لاسباب عديدة عرفها تاريخ العراق الحديث، وتم التطرق اليها مرارا وتكراراً. ومن سوء حظنا جميعاً ان تتحول ماراثونات التعيين بيد سدنة الفتح الديمقراطي المبين، الى وسيلة لكسب المريدين والاتباع، عندما تضاعفت اعداد “الموظفين الحكوميين” الى أكثر من اربع مرات عما كانت عليه قبل زوال النظام المباد.
كما ان تقاليد ومعايير “التعيين” والوصول الى المواقع المهمة والعليا في المؤسسات الرسمية، ومنذ ولادة الدولة العراقية في العام 1921 لم تكن تخضع للمهنية والكفاءة والنزاهة، وزادها تدهوراً عند اكتشاف النفط وتحولنا تدريجياً الى عالة على صدقات موارده. عيال النفط “الموظفين الحكوميين” هؤلاء ووفقاً لما كشفت عنه ارقام مشروع موازنة العام 2020 يشفطون أكثر من 70% من الاموال المخصصة لها. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ما ذكره الخبراء الاقتصاديون حول عجز موازنة 2020 والذي يعد اعلى عجز يواجه العراق منذ عقود، وقد فاقمته اكثر قوافل التعيين الجديدة واعادة نحو ربع مليون شخص من المفسوخة عقودهم، وغير ذلك الكثير من تقنيات الهروب الى الأمام.
في “الوظيفة الحكومية” يمكن التعرف على جانب كبير من محنة هذا الوطن واهله وعلل عجزنا العضال، وهي ستبقى ووفقا لما سائد وراسخ من قيم وسلوك وتقاليد؛ مرتعاً لما يمكن أن نطلق عليه بـ “المبشرون بالوظيفة” أي الذين تتدحرج الى احضانهم الوظيفة من دون الحاجة لمعرفة قدراتهم الفعلية على القيام بواجباتها، كما هو متعارف عند الامم والبلدان التي وصلت لسن التكليف الحضاري. من دون وعي حجم وابعاد الكارثة المحدقة جراء انعدام القدرة على اتخاذ قرارات شجاعة ومسؤولة، لكبح ما يجري من هدر واستنزاف لفرص وامكانات وثروات البلد؛ سننحدر جميعاً (افرادا وجماعات) الى مصائر لا تتخيلها أكثر المخيلات تشاؤماً. كما ان لوباء “الوظيفة الحكومية” هذا مدلولات وعواقب لا اقتصادية وسياسية وحسب بل قيمية واخلاقية، هي الأشد فتكاً وضرراً بحاضر ومستقبل هذا الوطن المنكوب..
جمال جصاني