كتب « أدونيس» مقدمة للشعر العربي، في فترة، لم يكن الوعي الشعري الحالي متشكلا ومتماهيا مع الشكل الجديد للشعر العربي كما هو الآن، ورغم ذلك، شكّلت آراؤه عن الشعر في ذلك الكتاب الصادر عام 1971 عن دار العودة في بيروت بطبعته الأولى، وعام 1986 عن دار الفكر بطبعته الخامسة، وأعادت دار الساقي طباعته عام 2009، لتعيد طرح الاشكالية التي تناولها أدونيس في كتابه هذا. لقد اعطى مفهوما مغايرا للشعر، ووضع فواصل وخطوط بينه وبين النثر، لم تستند على الأسس القديمة» الشكلية البحتة» بل تجاوزها الى المضمون، إلى ذات الشاعر، وهاجس القصيدة. لقد منح أدونيس بعدا روحيا وداخليا للشعر، جنّبه الشكليات والأطر الخارجية التي تقيد من حية الشاعر، وتفرض عليه قيودا في وقت هو بحاجة الى الحرية أكثر من أي وقت آخر. الشاعر، حين يكتب، فإنه يغوص في أعماقه، باحثا عن مفردات يمكنها أن تكسو حالته الروحية والنفسية، تلك الحالة التي وجدت نفسها عارية أمام الكلمات، فأخذت تطلب الشعر. وقد يجد الشاعر كثيرا من الكلمات والعبارات التي تنتظره هناك، لكنه عنيد وقاس في اختيار الزي المناسب للحالة التي يشعر بها. فعلى الكلمة ألا تكون على مقاسات متماهية مع ما هو مطلوب، بل عليها أن تكون مغايرة ولكن بنفس الوقت لا تكون شاذة. الشعر يوجد في أعمق الأماكن داخل النفس، عكس الفنون الآخر، فهي قد تكون متاحة في أي مكان. ويرى أدونيس أن الكلمات التي تخرج من ذلك المكان، هي الشعر، والتي لا تشترط شكلا معينا، حيث أن الشكل الشعري دائم التشكل، ولا يوجد شكل محدد يمكن الركون إليه. فالشكل الشعري كما يقول: هو الذي يظل في تشكل دائم. وهذا التشكل يدور مع تجربة الشاعر، فكل شاعر لديه شكل خاص به، شكل يتفق مع الفورة الروحية التي يشعر بها، والحاجة الملحة للكتابة. فلو ذهبت الكلمات الى قالب ثابت، نهائي، كمن أطلق من سجن ليقع في سجن آخر، فالكلمات، المعطلة داخل الروح، أو الخلجات الانسانية، ليست بحاجة الى كيان خارجي، يفرض عليها كيف وتكون وفي أي مكان تجلس، إنها بحاجة الى فضاء، لتفجر طاقتها التأثيرية. فالنص كما يقول، بحاجة الى حضور وليس إيقاع، بحاجة الى نهر اكثر عمقا من انهار الروح، ليتدفق عبرها إلى اللا مكان. ويرى أدونيس أن طريقة استخدام اللغة، هي المقياس أو الحد الفاصل بين الشعر والنثر، فحين نحيد باللغة عن طريقتها العادية في التعبير، والدلالة، ونضفي عليها طابع الاثارة والتشويق والدهشة، يكون ما نكتبه شعرا، وبالعكس، فلو استخدمنا اللغة، بطريقة اعتيادية، نمطية، ونلبسها ثوبا على مقاسات ما حولنا، لا مقاسات ما نشعر، فهنا سيكون ما نكتب نثرا. وبهذا، فإن أدونيس هدم الفكرة القديمة/ الحديثة عن الفرق بين الشعر والنثر، فالشكل أحد عناصر الشعر، وليس الشعر كله، إذ يمكن أن يكتب الشاعر بالشكل الذي يناسب الحالة التي يستدعيها هو، لا وفق ما تستدعيه المحددات المعدة سلفا. ففن البيت، والقوالب الجاهزة والثابتة، ليست مقياسا على انتماء النص الى الشعر او النثر، بل حضور النص، وذاتيته، ومدى قدرته على تشكيل بنية لغوية جديدة، ونسق مغاير للسائد، وبقدر ما يمتلك من طاقة وسطوة على المتلقي، وقدرة على منح تشكلات جديدة للشعر، بقدر ما يمكن اعتباره شعرا. يبقى كتاب» مقدمة للشعر العربي» محاولة كبيرة ومهمة نحو إعادة تأسيس لمفهوم الشعر.
سلام مكي