رمزية التأسيس الثقافي في أية ثقافة تحمل من التوصيف الاخلاقي مثلما تحمل من التوصيف الثقافي، وهذا ما يجعل طبيعتها الاشكالية تتحمل القراءات المتعددة، ووجهات النظر المختلفة، لاسيما ما يتعلّق بالتاريخ، أو بالأفكار، أو بما تعنيه خصوصية المُنجز، وقدرته على التداول والتجاوز والتأثير.
في تاريخنا الثقافي برزت هذه الظاهرة في الشعر، وفي القصة، وحتى في النقد، وأثارت حولها اسئلة كثيرة، وسجالات لم تنتهِ الى اليوم، حتى اجترح البعض لهذا الخلاف توصيفا تعويميا، بعضه يخصّ البعد التاريخي، وبعضه الآخر يخصّ البعد الفني، وهما بعدان غير متوافقين وينتميان الى مرجعيتين مختلفتين تماما..
ما يخصنا في هذا الأمر علاقة النص بمفهوم الحداثة، وبتقانات التجديد، إذ تمثل لنا عتبة لمقاربة الاشكالات التي تقترن بهذه العلاقة، وبمدى قدرة كاتب النص على حيازة وعي شروط التأليف والتأسيس، فالقوة الرمزية لهذا النص ستتجاوز آنيتها الى ما يرتبط بمدى تأثيرها على تداولية قيم التجديد، وعدم حساسيتها إزاء بروز تجارب مغايرة لها اسئلتها الجديدة إزاء ما هو مختلف وحديث، أو ما هو متعالق بالمقدّس أو بالسلطة، أو بالجنس، وهذان الأمران سيصطنعان لهما مصدّات وعوائق ستقف أمام التوصيف المفاهيمي للحداثة، أو للتجديد، لاسيما في اطار ما هو مُكرّس في اللاوعي الجمعي الثقافي، على مستوى تأصيل النصوص التأسيسية، أو على مستوى ارتباط تلك النصوص بمؤسسة الحكم، أو بمؤسسة المُقدّس أو بمؤسسة الاباء، وبقدر ما تمثله تلك الابوية الثقافية من مركزية ضاغطة، فإنها تعكس-في الجوهر- طبيعة التفكير الثقافي المهيمن، وربما ستحمل معها خفايا « المسكوت عنه» ولالاته وهيمناته، واحيانا رعبه المسكون بوهم التأسيس وسلطته، والتي تضمر في خطابها مهيمنات رمزية أخرى يشتبك فيها السياسي والايديولوجي والمقدس، وهذا ما يُعطي لتلك الأبوية نوعا من السيمياء المتعالية، على مستوى الاحتفاء بها، وبالأثرة التي تمتلكها، أو على مستوى النظر الى الاجيال والتجارب والاسماء الجديدة، والتي تَشكَّل وعيها في ظل ظروف مختلفة، وفي سياقات مختلفة.
للأسف لقد تحولت الأبوية الثقافية الى سلطة رعب، والى معيار قهري في التعاطي مع (ثقافة الأولاد) دون النظر الى أنهم كبروا أم لم يكبروا، أو عبر ما يمكن أن تحمله نصوصهم من سمات ذلك الجديد في الثقافة، والقبول به بعيدا عن أبوية تلك الاسماء القارّة، والتي تشكلت تجاربها في ظروف خاصة لها وضعها التاريخي، ولها نمطيتها في الكتابة وفي النشر وفي البروباغندا. هذا المنظور لا يعني اقتراح لعبة محو متبادل ما بين (الاباء والاولاد) بقدر ما يفترض وجود وعي فاعل يؤمن بأن الجديد هو الأفق المفتوح، وأن الماضي وما تأسس في لحظة تاريخية ما، والتي اصبحت جزءا من زمنه، ومن حساسيته، ومن اسئلته الاولى، وهذا ما يمكن أن تقوم به مؤسسات النقد والنشر والاعلام، والمؤسسات الاكاديمية، وليست مؤسسة الايديولوجيا، والتي مازالت تفرض معاييرها الضاغطة حول تداولية مفاهيم الجمال والكتابة والمستقبل..
الحديث عن فكرة التجديد تنطلق من فكرة الحرية، أو من مسؤولية وعي تلك الحرية، وهي متلازمة تفترض وجود الارادة الثقافية التي تكفل القبول بالجديد، وقبول تداولية هذا الجديد، على مستوى الحكم النقدي المعرفي، أو على المستوى التاريخي، أو مستوى الثقة ب» الاولاد» الذين كبروا، وتمردوا على السياق، واكتشفوا لإقدامهم حوافر أخرى، أو لوعيهم اسئلة أخرى..
هذا المعطى هو الرهان، وهو جوهر الحداثة، ليس كمفهوم يلتقي فيه التاريخ مع الفلسفة، بل كقيمة ناتجة عن الصراع، وعن التحوّل والتجاوز، وعن قدرة النص الجديد على أنْ يُثبت وجوده وهويته، وأن يؤشر مديات معرفية وجمالية لهذا الإثبات الذي سيكون في رهان مستقبلي أيضا، وفي صراع قيمي ومفاهيمي داخل الحداثة، أو في تجاوزها الرافض لمركزيتها، ولهيمنتها أو لسلطة آبائها العالقين بالأيديولوجيا والتاريخ والمؤسسة..
علي حسن الفواز