نزار السهلي
فقدت الكلمة أحد اقطابها، وخسر الشعر واحداً من بيوته النثرية المتلاصقة، وأحد الذين سلموا مفاتيح الكلمة مقاييس جديدة لمدن تستكمل علاقة الزمان بالمكان والإنسان، وكانت نقطة الالتقاء في تقاطع ترتيب زمن آخر، توحد بالفعل والعمل. رحل أمجد ناصر تاركاً سردية الرواية تُعيد شحن المكان والزمان بالدلالات، على عناوين زمن آت وآخر يمضي، وللنثر والشعر أن يقيم علاقة واقعية في إطار معادلة تساؤلات الشاعر عن أجوبة الكلمة، امتدت فيها صبوة الألق «منذ جلعاد يصعد الجبل» 1988، إلى «رعاة العزلة» 1989، و»وصول الغرباء» 1990، كانت وشوشة الأماني المبعثرة عند أمجد ترتعش في خبط الأماني لتروى «حيث لا تسقط الأمطار» 2010
في رحيلك أمجد، نتمتع بفاجعة الصمت، مع أن نثر الكلمة كانت نفحته ندية، لفحتنا في هذا التصحر الثقافي. كثيرون ألِفوا قيظ المعاني، للهروب من البهاء الندي للبدوي المدفوع نحو كواليس أعمق، يسترد فيه الشاعر ما استلب من الثقافة وعطالة المثقف، فكنت تعيد تنظيم دلالات الأشياء في احتماليتها المفجعة حتى رثاء الذات، حين فشل العلاج في وجه الورم، وكان الجدل مع الطبيب يختزل كثافة بالغة المعنى في الوجود وعدمه، يقطع التسلسل الزمني إلى وزن مُركب الشعر على أكثر العناصر المستعيدة يوميات الشاعر، في معركته ضد المرض بمستشفى «تشيرنغ كروس»، ويستعيدها في سبيل كسر الإيقاع.
ذروة البساطة في التعقيد بسؤالك «من يحمل عبء الآخر: الاسم أم الجسد؟»، الشاعر أم
القصيدة، لكنك بحت بأبسط الأشياء حميمية بانحيازك للإنسان، وظفت الكلمة ونثرتها وشطرتها، وحين كبر الورم اتكأت عليها، هي القدرة المذهلة للإنسان الشاعر المثقف البدوي المنحاز للصحراء والمدينة والقرية والحواري والأزقة. يتحدد المكان، عند أمجد، ويتسع، ليشمل صفوف الساعين إلى الانعتاق من هراوات السجان، وقهر الطغيان، من القدس إلى الزرقاء، وبيروت ودمشق وبغداد والقاهرة والرباط وتونس، إلى كل الحالمين بالعودة نحو حرية وكرامة.
في حفل تكريمك الأخير في عمان، تابعنا أصابع الشاعر المثقف تلتقط الميكروفون لبث بعض كلمات تغتبط حباً وخجلاً، لكنها أصابع لفت قلماً حراً أحال الكلمات إلى وهج دائم وفعل مستمر، لن يتوقف بعد أن يتحرر الشاعر من الجسد. هي أسطورة الكلمة، وأثر المثقف الذي كنته بزند مقلاع ضرب قناع المثقف وأسقطه، وأعلى من نثر المعاني بصور مفاجئة لا تشبه غيرها، تشد من حولها إليها، في سعي دؤوب للولوج إلى آفاق حرية وإنسانية وكرامة.
هكذا عرفنا أمجد ناصر، وعرفه كل من اتبع هوى الحرف والكلمة، وتحسس حبرها وأثيرها، في الغربة، وفي الوطن الذي أصبح رواية المثقف ونثره وشعره، مزجهم أمجد مع بعضهم، فكانت بصيرتنا تنفذ خلفها، كانت وبقيت هواجسه الإنسان الذي عاشه وعايشه، إنه الشوط الذي قطعه وتمكن منه بنثر الكلمة فوق جبهة الإنسان لتكون دريئته في المعركة الطويلة، وسلاحه المدخر دوماً.
يرحل أمجد، ولا تكتسي الكلمة سوادها، رغم حزنها العميق وألمها في استيعاب ما كان متوقعاً، لأنه قال في مرثيته «المهم الآن هو وجودنا. أنا أؤكدك، وأنت تؤكدني. هذه علامة حياة لكلينا». وهي سردية روايتنا.
*عن موقع ضفة ثالثة