رحْمة

نجيب طلال

ذات العمر العشريني؛ تعلوها سحْـنة البداوة؛ والبشرة الداكنة؛ فارهة الطول؛ وترتدي أسمالا مرتقة، لم تطق وضع الاستعباد والسخرة؛ في عمل زوجها. زوجها توفي في ظروف غامضة؟ فهاجرت ليلا بطفليها لإحـدى المدن؛ لتتقاتل مع الفضاء وهول أيام أزماتها، فلم تستطع الصمود؟ فرحلتْ إلى إحْـدى المدن الصغرى؛ لتبتاع بعض الخضر التي تجلبها من شقاء يومها من إحـدى الضيعات..سنوات على هاته الحالة؛ وطفليها كبرا؛ ولم يلجا المدرسة؛ كأقرانهم ! ليس لديهم وثائق ثبوت اللقب والنسب والازدياد! فتشردا في الأزقة، هذا يبيع السجائر بالتقسيط تارة! وذاك يحاول غسل السيارات التي يتوقف أصحابها للاستراحة؛ لتناول لحْم مشوي أو محمَّر أو مفروم أو مدَخن أومُفـوَّر! وتارة يحْمل صناديق المشروبات أو الخضروات لأصحابها، والآخر يمارس النشل والسرقة في لحظة كـَساد سلعـته، حتى اعتقل متلبسا.
لم تطق -رحمة -تصرفات ابنها؛ وإن كانت تزوره في سجنه، وتـُسلـَّم له ما استطاعت شراءه من حاجيات يحتاجها. حتى انقضت مدة عقوبته؛ فهاجرت لإحدى المدن العتيقة، سكنت بين الجيران، غرفة متوسطة المساحة في إحدى الأحياء الشعبية وسعت لطبخ الخبز البلدي وبيعه في بوابة السوق المركزي. وابنها الأكبر حاول أن يجد عملا في إحدى مصانع الخمور، والآخر تعاطى لبيع المتلاشيات في الجوطيات.
وهكذا ظل وضع – رحمة -هادئا؛ لكنـه انقلب بشكل مفاجئ؛ حتى فكرت في الانتحار؟ بعدما تم اعتقال ابنها الأكبر؛ الذي عنف صاحب مصنع الخمور تعنيفا؛ لحظة طرده من عمله بدون تعويضات؛ ولحقه أخوه في سجْـنه؛ بعْـدما اتهم ببيع المسروقات.
انقضت مُـدة عقوبة الأكبر؛ وبقي أخوه الأصغر في سجنه الأغبر. و-رحمة -تبحث عن الرَّحمَة والسكينة فما وجدتها؛ حينما طردها قائد المقاطعة من بوابة السوق المركزي.
ففكر ابنها ببيع الخمور للمتعطشين ولأصحاب الليل والمتشردين في الأزقة والحواري باتفاق وترويج بعض أموال والدته – رحمة-فكان له ذلك: حينما نسَّق مع أحد اصدقائه من المصنع الذي كان يعمل فيه؛ فانتعَـشت حياتهم؛ وأمست -رحمة -تلبس جلابيب جديدة وتأكل مأكلا نظيفا وتسافر إلى الحمامات القريبة من المدينة العتيقة. لتسخين عظيماتها من البرد الذي سكنها.. لكن ابنها لم يفهم قانون اللعبة؛ فترصدت له شرطة منطقته؛ فاعتقلوه وتمت مصادرة ما تبقى من خمور تلك الليلة. فناب عنه أخوه في بيع الخمور؛ فتم اعتقاله؛ والمصادفة جاور أخاه في مَعْقله؛ لكن تجارة الخمور السرية باشرتها – رحمة – حتى لا تضيع الخيرات والنعم التي أمست تعيش فيها؛ وحتى يظل الزقاق مزارا للسكارى والمعربدين.
أفـْرجَ على ابنيها في يوم واحـد. فَـسلمت المهام التجارية لصاحِـبها. بعدما استفاد وتعلـَّم في سجنه طريقة وأسلوب كيفية الهيمنة واكتساح المنطقة كلها. تحقق له ذلك؛ ونمت تجارتهم؛ فظلت-رحمة-تشتري العقارات في إحدى المناطق الهامشية؛ التي أصبحت (الآن) حضارية.
لكن للقدر مَـنطقه. فـقدت – رَحمة -صوابها؛ وأرسِلتْ بأمر قضائي للمارستان؛ كي تعالج! حـينما تمرغت في دماء ابنها الأكبر المطعون بطعنة سكين من أحد منافسيه في بيع الخمور بالتقـسيط.
فواصل الابن في البيع، حتى لا تتوقف تجارتهم؛ لكنها توقفت لحظة اعتقاله بوشاية بيع الخمور المغشوشـة. فتضايق به الحال هاته المرة من السجن وطول عقوبته؛ وأمسى يوميـا يصـرخ ويـردد:

  • تبا لزمان ولادتي. ما ذنبنـا أن نعيش بين الخوف والفقر والسجون؟ قتلوه. كلاب. سفلة. الكلاب. السفلة. جُـنَّـت والدتي. رحْمة بدون رَحمةٍ..قـدر أهبل.. أهبل. أهبل.
    تضايق منه السجناء والسجانون من صراخه اليومي؛ المقلق؛ المزعج؛ وترديد نفس النغمة، التي لم يستحْـملها أحَـدهُـم. فصوب له ضربة طائشة لرأسه. افقدته الوعي ليعيش عوالم الإنعاش شهورا وشهورا. وفي ليلة ممطرة؛ نهض متسللا وهو لا يدري ما اسمه ولا أين هو؟ فخرج من المستشفى؛ ليسيـح في الأرض هائما يتسول ويعاقر الكحول السامة؛ ولا يتذكر سوى:
  • رحْمة بلا رحْمـةٍ…. رحْمة ٌ بلا رحْمـةٍ….

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة