رواية أجساد من رمال (1) للروائية العراقية نادية الابرو
عبد الغفار العطوي
قدّمت الرواية النسوية العراقية منذ بواكير نشأتها محاولات بسيطة في الكتابة التي جاءت على شكل قصص طويلة، بدأت بقصص حربية محمد ( قصة رجل ) الصادرة عام 1953 وهي اربع عشرة صفحة فقط (2) ومع التطور في الكتابة الروائية النسوية في العراق بعد التحولات السياسية والثقافية في منتصف القرن العشرين حتى عام 2018 ببروز روائيات عراقيات لفتن النظر الى قدراتهن في وعي وفهم دورهن في إمكانية معالجة قضايا مجتمعية تكون محورها المرأة وفق مضامين روائية وصياغة فنية (3) لتكون الرواية النسوية العراقية قد ادركت استقلاليتها كنسق ثقافي قار في الهوية الثقافية العراقية، وقدّمت شروطاً بينة على التساؤلات التي ناقشت ماهية الاختلاف بين الكتابة النسائية و الكتابة الذكورية، ونجحت الروائية العراقية طوال عقود من الحروب والتحولات السياسية من قطف ثمار وعيها في تأسيس منظور مستقل لها، يمكنها الرجوع اليه، ولم يقتصر فهم أثر المضامين الفنية في معالجة المضامين الاجتماعية على الروائي، استدرجت تلك الالتفاتة الى قيام الروائية بتجربة الكتابة عن ازمات الحروب و السجون والانتفاضات الشعبية، لأنها وجدت ان الاختلاف في الكتابة بين المرأة والرجل لا يتوقف عند حدود التباين الجندري، بل تجاوزت الخطوط الحمر في هذا الجانب، لكنها استخدمت في الظواهر المتعلقة بالزمن حينما اعتمدت على ضمير المتكلم في السرد الى اتخاذ الشكل الذي يعطيها القدرة على التحدث في طغيان الاسترجاعات، وهو الشكل من التذبذب في الزمن بين الماضي و الحاضر يؤدي الى نشوء تقنيتين في السرد هما الاسترجاع والاستباق (4) وهو ما فعلته الروائية نادية الآبرو هنا، حيث نجد هذا الشكل الموغل بالأنا المتكلم لدرجة كدنا نخشى ألّا نميز بين الكاتبة وشخصياتها، في رسمها لصورة الرجل، فالرواية هذه اعتمدت في فصولها الثلاثة على ثبات تاريخي مدته الزمنية يوم واحد( مساء الأحد 14 كانون الأول 2003 الى ليلة الاثنين 15 كانون الأول 2003) هو في الأساس محدد تاريخي فاصل بين نظامين وسلطتين ومناخين يحددان الغاية من تأسيس صورة الرجل بربطها بشكل السلطة السياسية التي جرّت المرأة ( وفية) كإنموذج للنساء العراقيات اللاتي وقعن في قبضة الصورة البشعة للنظام السابق، إذاً في هذه الرواية هناك تمثيلات للمرأة في الجسد والذات (5) في الجسد الآثم المدنّس للمعتقلات في السجن ( وفية والدكتورة إيمان والطفلة شيرين والعشرات من النساء ) حيث الرجولة المستبدة القائمة على الاغتصاب الكيفي التعسفي للأنوثة المستباحة قبالة ذوات نسوية معذبة تعرف ان مصيرها الهلاك في الحفرة المعدّة سلفاً كقرار قضائي تسلطي، لكن منصّة العتبة تنهي النزاع في ان الماضي لا يعود، قبل هذا، التي اطلقها ماركيز، ليسود الاسترجاع كمهيمنة زمنية شبه مطلقة، كإنما تقرأ الكاتبة وهي تعرض صورة الرجل إنما هي تشف من الرمل أرواحاً طوّح بها الزمن المستعاد، الكاتبة تنهضها من وراء عوالمها الشفافة، لأنها في الحقيقة غير موجودة، فالماضي الماركيزي لا يعود لأجساد لا أرواح لها، أعدمتها سلطة الرجل في الحفرة التي تقع في عمق صحراء السماوة بعد ان انهكها السجن والتعذيب والاغتصاب للنساء من مختلف الأعمار، وتأتي عملية الاسترجاع الباطني للشخصيات الرئيسة الثلاث( كاظم – وفية – عبد الجبار ) في الفصول الثلاثة التي تنطلق من مكان واحد ( في المستشفى ) في عملية استنطاق الجسد المدنّس ( جسد وفية ) في غيبوبة اللاوعي، أي ان تلك الشخصيات لا تعي الحاضر ( إلا قليلا تحت سلطة الكاتبة ) بل تتماهى مع اغوار ومتاهات الماضي الذي لم يعد، لتظهر ان الرواية تبث اهتمامها في صورة الرجل الوحش، الزوج الغيور المتعجرف ( جواد حسين ) المدلل ابن أمّه الذي اشترى بندقية ليقع في الشبهة، وهي الصورة الأولى للرجل في الرواية الذي حمّلته الكاتبة وزوجته ( وفية ) معاً تبعات كل ما حاق بها من سجن واغتصابات لا تعد أو تحصى من الشرطي في السجن الى الضباط، والاجهاضات التي تتلو كل عملية اغتصاب، الى ان وجدت نفسها تحمل طفلاً سفاحا ( ماجد) دون ان تعرف من ابوه، الصورة البشعة للرجل في هذه الرواية تعدّت الزوج المدلل ورجال السجن ( الذين اغتصبوا كل النساء المعتقلات بما فيهن الطفلة الكردية شيرين مقابل اعطائها قوالب الكاكاو ) الى الرجل السكير (عبد الجبار) الذي انقذ وفية من القتل الجماعي واستطاعت الهرب مع ابنها ( كاظم ) وهي مصابة ليحوّلها من امرأة مستباحة لرجولة السلطة لكنها تحتفظ بزوج وولد ( كاظم ) وابنة ( زينب ) ورضيع لا أب له ( ماجد) الى امرأة منتحلة الاسم والصفة ( زوجة الشهيد الذي هو أخ عبد الجبار) هنا الصورة واضحة للرجل الكريه الذي ظل يمقته الابن ( كاظم ) لمّا ان لمح أمه ( وفية ) يغتصبها (عبد الجبار) في الغرفة التي كانت تشبه القاووش في السجن الصحراوي، ظلت كراهية (كاظم) للرجال تنفره من النساء اللاتي يشبهن وفية، الأوديب الرابض فيه حوّله الى كراهية بشاعة الرجل وضعف المرأة، وبقيت عقدة أوديب تحرّك (كاظم) بين الحقد على أبيه الحقيقي المدلل الثوري الذي قدّم زوجته الشابة الى الاغتصاب اليومي و سلسلة من الاجهاضات وهي تستقبل قذارة الرجال ووحشية ممارساتهم الجنسية، وبين الثأر من منقذهما من رصاص السلطة وعواء الذئاب ومتاهة وظلمة الصحراء، وقد لفظهم الموت المحقق وانقضّ على بقية السجناء الذين طمروا في الحفرة، لأنه ابعده عن محبوبته أمه؛ (وفية) و قام باغتصابها واحتكارها له وحده، ظل كاظم يتحين الفرص ليعيدها اليه ولما سقطت في آخر مرة وحملت الى المستشفى استعادها رمزياً، ودارت الدائرة على (عبد الجبار) السّجان الجديد الذي أشر على ان سجن المرأة لم ينته في تغير النظام السياسي، لهذا كان تعنيف الكاتبة (لعبد الجبار) اشدّ وضوحاً انتهى بقتل (عبد الجبار) بعد ان ادرك ان (وفية) التي اغتصبها عدة مرات لم يستطع ان يقضي على تطلعاتها للحرية التي رمزت به (بالدّيك) لتكون النهاية حرق البيت السجن وانقاذ (أمين) المقعد، ولأن الكاتبة حددت المكان الثابت والزمان الظاهري المحدد فقد عالجت صورة الرجل وفق قناعاتها، أي تبغض من و تحب من؟ فإن احست بسادية كل الرجال الذين تناوبوا على اغتصابها، فقد رأت الهيمنة الأوديبية في عيني كاظم، حتى وهم في السجن في تنافس (شيرين) المدنّسة و (زينب) الطاهرة، على محاباته وهو يتعلق برائحتها الأمومية التي لا تفارقه، وبالفعل لما استشاط (كاظم) غضبا لفقده الحاضنة الامومية لم يقبل وهو بعيد عنها في الجامعة في البصرة بـ (شهد) ان تكون وفية أخرى مثلما رفض هيمنة الأب والأب المزيّف ( جواد حسين- عبد الجبار ) وقدّمت الكاتبة صورة الرجل بدورها بعناية فائقة، وهذا يؤكد القدرة التي اكتسبتها الروائية العراقية وهي تخوض التجربة الخطرة في الخطاب الروائي النسوي، بعد ان كانت حكراً على الخطاب الروائي الذكوري، من يقرأ ( ارواح من رمال ) يدرك الخطوة الجريئة للنسويات في رسم صورة الرجل البشعة وسلطته الذكورية القذرة .
إحالات :
1 – ارواح من رمال رواية نادية الآبرو الناشر سطور للنشر و التوزيع بغداد الطبعة الاولى 2017 .
2 – تجلياتهن ببلوغرافيا الرواية النسوية العراقية د – لقاء موسى الساعدي الناشر المؤسسة العربية للدراسات و النشر بيروت الطبعة الاولى 2016 ص 11.
3 – المصدر نفسه ص 15.
4 – المصدر نفسه ص 71 .
5 – الخطاب الروائي النسوي العراقي ( دراسة في التمثيل النسوي ) محمد رضا الاوسي المؤسسة العربية للدراسات و النشر بيروت الطبعة الاولى2012 ص 119.