تختزن ذاكرتنا الكثير من الصور والمشاهد التي تشكل بمجموعها رؤانا الفكرية ونظرتنا الاجتماعية وتعيش شخوصها معنا بكل ما تعنيها من خيرها وشرها وفلسفتها الحياتية وتظل الأعمال الادبية والفنية بوصلة اتجاهنا الإنساني مضافة الى منظومتنا التربوية والاجتماعية والعقائدية ولعل رواية البؤساء لفكتور هيغو واحدة من اهم الاعمال الادبية الخالدة التي تحدثت عن العدالة الاجتماعية في خضم الولادة القيصرية للثورة الفرنسية وشعارها (الحرية، الاخاء، المساواة).
لقد ابتدأت الرواية بالعبارة التالية «تخلق العادات والقوانين في فرنسا ظرفا اجتماعيا هو نوع من جحيم بشري». وبالفعل قدمت الرواية لنا شخصية بائسة نتاج الظلم والقهر الاجتماعي هي شخصية (جان فالجان) تصارعت هذه الشخصية ضمن أحداث الرواية مع قوتين، قوة القانون والدولة المتجسدة في شخصية (المفتش جافير)، وقوة الخارجين عن القانون والسلطة، ولكنهم بالوقت ذاته خارجون عن القانون الأخلاقي، وجسد هذه القوة (تيناردييه وزوجته) وفي النهاية انتصر جان فالجان على القوتين بصبره وقوة إرادته وإيمانه بصوت الضمير والحق. أمّا (جافير) الذي طبق القانون بحرفيته، فلم يجد أمامه إلا طريقاً واحدةً وهي الانتحار ورمى بنفسه في نهر السين. لم تستطع قوته الصمود أمام قوة الضمير والأخلاق الحقيقية.
ان رواية البؤساء ارادت ان تقول ان تطبيق القانون يعني روح القانون وهي تحقيق العدالة وليس تطبيقاً اليا للنص القانوني الذي اكتشفه (المفتش جافير ) متأخراً وهو المعبأ بقوة القانون وسلطة الدولة.
لقد ظهر مصطلح (روح القانون) بصورة مصاغة فلسفيا في كتاب للفيلسوف الفرنسي (مونتسيكو) في القرن الثامن عشر بعنوان (روح القوانين). ورغم أن فلسفة مونتسيكو في الأساس تناولت الفصل بين السلطات (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية) من منظور سياسي لكن فقهاء القانون تناولوا (مبدأ روح القانون) الذي اسس له مونتسكيو وناقشوه من خلال معضلة تزمت النص القانوني أحيانا في وقائع مختلفة قد تجعله يبدو منحرفا في بعض الأحيان عن تطبيق روح العدالة وبالتالي عن تحقيق السلام والأمن المجتمعي وفي الغالب ينشغل الناس بالقانون ونصوصه وكيفية تطبيقه وبخاصة تلك التي تشغل الرأي العام ويتعاطف معها أو يغضب منها وتثير حنقه، فعندما تقع الجريمة وتشكل وقعاً خاصاً وتصبح حديث الناس لبشاعتها او غرابتها او بسبب الظروف المحاطة بها او طبيعة مرتكبيها فإنها تكون محط اهتمام الجميع والسؤال المطروح ماذا سيكون الحكم فيها؟
ان خروج الحكم عنوانا للحقيقة امام الرأي العام يأتي بعد مخاض عسير يتمثل بقراءة اوراق القضية والتوقف مليا عند الاقوال والافادات والمحاضر التحقيقية وتأمل الشهادات واستحضار آلياتها ومشاهدها التحقيقية والاحاطة بالجوانب الخاصة بالقضية مع انسجام ومطابقة بين الوقائع والنصوص القانونية مع ما للقاضي من سلطة تقديرية في التخفيف والتشديد طبقا الظروف القضائية او تلمس الأعذار المعفية من العقاب او المخففة له وفي خضم كل ذلك تكون روح القانون قناعة ترافق رؤيا القاضي عند تفسيره للنص القانوني المطبق على الواقعة.
وبالرغم من ان القاضي الجنائي محكوم بالمبدأ الدستوري والقانوني (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص) الا ان روح القانون تكون اكثر حضوراً في القضايا الجنائية منها عن القضايا المدنية التي تختفي روح القانون فيها كونها ذات الطبيعة القانونية الجافة فهي لا تمنح القاضي سلطة تقديرية يستطيع من خلاله مناغمة النص القانوني وسبر غوره وايجاد ما يتوافق مع هدف وغاية المشرع فالنصوص المدنية لا تحتمل خيارات متعددة وطريقها تطبيق النص ومخالفة النص يعني مواجهة النقض التمييزي رقابيا ومخالفة النص قانونا يعني حكما بعدم الدستورية واخيرا تحضرنا مقولة القاضي الرحيم كابريو الشهيرة «إن شككت بوجود ظروف قاهرة لدى المتهم، أو أن حياته قد تكون مهددة، فإنني أقبل صحة تفسيره لما حدث، لأنه من العار عليّ أن أمثل سيادة القانون وأحكم على الشخص بما لا يستحق». فسيادة القانون اذاً مرتبطة بشكل وثيق بروحية النص القانوني المتسق بالأسباب الموجبة لتشريع القانون والذي ينتمي اليه النص القانوني وكلها تنتمي الى العدالة.
القاضي ناصر عمران