نصير الشيخ
ــ البحث عن مكونات الرؤى النقدية وتجلياتها عند الشعراء النقاد، ومن ثم قراءة مفهوم ( الشعراء النقاد) في ضوء مسائلة مختلفة لمسوغات وجوده، وموجهاته، والمعطيات التي أسهمت في تشكلهِ، مفهوما ذا خطر كبير في الدرس النقدي الحديث، هذا الجهد القرائي هو متن كتاب ((الشعراء نقادا/ المفهوم والتمثلات)) للدكتورة أماني حارث الغانمي، الصادر عن دار شهريار في طبعته الأولى 2017 وحسب توصيف المؤلفة ((دراسة)) تتبع مفهوم الشاعر الناقد ليس بمنحاه التاريخي والببلوغرافي، وإنما هذه المرة بأسئلة تفتح مجالا واسعا للقارئ والدارس في النظر الى مساحات أبعد في هذه الموضوعة، متتبعة ماكتب من مقالات ودراسات ومؤلفات،حتى صار (( تحت وطأة التراكم مفهوما متفق عليه، ليس به حاجة الى أعادة النظر أو القراءة)) أي مفهوم الشاعر الناقد.
أشتمل الكتاب المؤلف من (190) صفحة من القطع الكبير، على تمهيد وثلاثة فصول،جاء التمهيد تحت عنوان كاشف ((الشاعر الناقد/ موجهات المفهوم)) مبتدئة من أس السؤال: هل يمكن تمثيل الوجود بلا شعر أو شاعر..؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال أو جميع الأسئلة التي وجهتها المؤلفة للوقائع التاريخية والحوادث الأدبية أو الرموز الشعرية، وضعتنا على الدوام في مساءلة متسللةٍ فيها لمعنى ماحصل،او الذهاب أبعد لامساك صحة حدث ادبي تم تدوينه وتداوله فيما بعد محققاً صداه. هذه الأستفهامات التي أعتبرها جزءً من المعاينة النقدية التي اضطلعت بقرائتها د.أماني، وبكل اعتداد عبر تحليل الوقائع وإرجاعها الى أصولها بغية ابرازالصورة كما هي، لاكما حققت من انتشار أو حضور، بل ذهبت الى ماهو أبعد حد تفكيك ظواهر أدبية تشكلت فيما بعد (متناً) كبيرا في الثقافة العراقية وحياتها الأدبية.مستفيدة وبحسب توصلاتنا اليه من آليتين في فحص وتحليل ونقد هذه الظاهرة ومهيمناتها الثقافية وبالتالي أنكتابها كتاريخ (أدبي) يؤرخ حضورها الثقافي والسيسيولوجي (للشعر العراقي المعاصر)، وبآليتين هما:الاقتراب من المفهوم الماركسي والغرف من النقد الثقافي.وعبر عمليات إجرائية مكنتنا من الاصطفاف لرأيها في هذه الظاهرة حد الجزم ((الى الحد الذي يمكن للباحث ان يجزم فيه، ان كل الشعراء في هذا العصر مارسوا نقدا طارئاً أو منتظماً.فأذا كان الشعر نشاط شعوري في أصله، والنقد نشاط عقلي في أصله، فكيف يمكن لنا من فك الاشتباك بين هذين الحقلين تارة،أو اتحادهما في وحدة كلامية تارة اخرى، وبحسب توصيف رينيه ويلك ((اتحاد قلق)).
في محنة التواصل والتوصيل، تنقب المؤلفة وترى ان من مهمة الناقد كما كان الشعراء قديما أن يكون صلة وصل بين الشاعر والمتلقي، فهو خليط (ان صح التعبير) من مقومات الشاعر ومقومات المتلقي..لتذهب الى ان هذا التعريف القارهو محل شك بدءً من محمولاته التراثية كما في كلمة (ابي تمام) وليس انتهاءً بمعطيات النظريات الغربية في الشعر والتلقي.
من هنا تعاظمت ظاهرة الشعراء النقاد، حيث صار الشاعر الناقد يقدم تصورا مختلفاً، يدافع فيه عن ذاتيته وعن خرقه اللغوي، وغموضه، وشكله الشعري.ومع احتدام هذه الظاهرة واصطلاح الشاعر الرائي بمهمته الأشراقية في تقديم رؤاه، نصأً ونقداً، ترى المؤلفة )) ان بنية المجتمع العربي لم تصل بعد تلك اللحظة، فقد استوردت كثيراً من معطياتها ونتائجها، وأثرها التسويقي،ولعل مايستحق الدراسة رصد هذه الظاهرة بتناقضها الغريب في الثقافة العربية المعاصرة )) ص26.
من هنا يبدو التشكيك واضحاً في تحليل المؤلفة لهذه الظاهرة ،دون النظر الى الحراك الشعري والنقدي خارج أطار السلطة الخارجية والداخلية، التي تحكمت في كثير من مفاصله وسياقاته. وبطريقة فيها الكثير من الطرافة، تعامل الشعراء مع النقاد على أنهم صورة من صور السلطة الغاشمة والرجعية وجوباً، وقدم الشعراء انفسهم دائما على أنهم صورة الثورة والتغيير والتقدم، واعادة خلق العالم على وفق رؤية جديدة.
ــ في الفصل الأول وعبرمبحثه (البيانات الشعرية/ الماهية والحاجة والأنماط) تتبعت فيه المؤلفة مفردة (مانفستو) عبر حضورها التاريخي ودورها في الاستخدام السياسي والفكري، وبع هذا الإيجاز لمسيرة لفظ (مانفستو) ربما يمكن البحث عن ماهيتها المفهومية التي تعرضت للكثير من التداخل مع غيرها من الألفاظ التي تقترب منها ظاهريا في الدلالة، لاسيما ألفاظ (إعلان، إيضاح، برنامج، مبادئ، اتفاقية) لتصل الى نقطة تقول فيها ((يختلف الدارسون في تحديد تاريخ الظاهرة في أدبنا العربي، فمنهم من يرى أن التراث النقدي القديم،ومقدمات الدواوين، والمقالات التي يكتبها الشعراء، تتضمن معاني البيانات وعناصرها، وان لم تقع تحت اسمها الصريح))ص 38.
مما يؤكد ان الشعر العربي المعاصر لم يعرف مفهوم البيان الشعري بمعناه الاصطلاحي،الا في ستينيات القرن العشرين،تأثراً منه: مصطلحاً ومفهوماً للتراث الغربي في هذا الباب، بعد اطلاع الشعراء النقاد على البيانات الشعرية الغربية، اما بنصها واما بما كتبه النقاد عنها.
تتبع التحولات الرؤية والشكلية في البيانات الشعرية، عبر استدلال دقيق قامت به المؤلفة للوصول الى السمات الفارقة بين تلك البيانات التي لاتتفق كلية في تصوراتها.لنقف عند نقطة حرجة أولاها (( أن البيانات لم تناقش الحد التمييزي بين حقلي الكلام: الشعر والنثر من حيث هما متمايزان لغويا، بل من حيث هيمنة المنطق على أحدهما، وهيمنة الخيال على الآخر)) عبر الذهاب ابعد في تشخيص الحالة حد الوصول الى المخالفة الجوهرية للمفهوم السائد وأعني (( ان بيانات الشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر، قد حلت هي الأخرى من تصور مفهومي واضح للحد بين ماهوشعر وماهوليس بشعر..واستعانت بالعناصر المحيطة ذاتها لتسويغ خروجها على مقومات الحد القديم، الذي يشترط الوزن والقافية)).ص49
لتذهب المؤلفة الى خلاصة عبر ماأسمته (المحيط النوعي) للشعر في الحقل الشعري نفسه (( فيبدو مسوغا بحكم ان مهمة البيان هي مخالفة السائد الشعري واثبات تهافته، والخروج عليه بشعر جديد.غير ان هذا التسويغ الشائع يصطدم بسعي البيانات الى تسويق الكتابة الشعرية لأصحابها على أنها النمط الشعري الوحيد الذي يستحق التبجيل، أكثر من سعيها الى التبشير بالشعر المفترض بديلا عنه نمط الشعر السائد)) ص56.
((التجارب والسير الشعرية فعلاً نقدياً)) هو عنوان الفصل الثاني للكتاب، تقصت فيه المؤلفة أماني الغانمي التجربة الشعرية لدى الشعراء النقاد وعدته فعلاً نقدياً خالصاً،لاشتمالها على عناصر الفعل النقدي الثلاثة: الكشف والتفسير والتقييم.ذلك أن هذا الفعل يعني الى حد ما الكف عن الإبداع للتأمل بعين النقد. وذلك ان ((الشاعر وهو يكتب تجربته الشعرية يدخل منطقة طالما أحس بغربته فيها، وتجنب ممارستها،لأنها تبدو نقيض طبيعته الشعرية، تلك هي منطقة النثر)) ص 87.
فهل الحديث عن التجربة الشعرية يعني الحديث عن الخبرات الحياتية التي أسهمت في تشكيل وعيه الفردي، وربما هنا نسميها(سيرة حياة)،أم أن مانعنيه هو السعي الى الكشف عن كيمياء الكتابة الشعرية وعوالمها السرية.ولأن مساحة هذا الكتاب هو الشعر الحديث منذ حركة الرواد، لهذا نرى ان النمط الثقافي الغالب على المنجز الشعري. والمؤلفة تتقمص الأثر الحياتي والثقافي وربما السياسي في المدونة الشعرية،وبما يتشكل لديه عبر اللغة الحامل الأساس للشعرية. من هنا والكلام للمؤلفة ((تسعى السيرة الشعرية نظريا الى توثيق الحراك الشعري الداخلي والخارجي بوصفه شعراً ووعياً بالشعر)) ص109. والسيرة الشعرية تجمع الأني العابر،الحدث بوصفها تاريخاً. مع المطلق عرّفَ الشعراءُ: النص بوصفه عابراً للتاريخ والآنية ومتعاليا عليهما. ومن أشهر نماذج هذه السيّر((أشهد اني قد عشت)) لبابلو نيرودا، و((الغابة الضائعة)) لرافائيل البرتي.
الفصل الثالث حمل عنوان ((الرؤى النقدية واتجاهات الكتابة النقدية عند الشعراء النقاد))،نافذة فيه المؤلفة عبرا لسؤال التالي: لماذا يكتب الناقد نقداً؟ أهو تعبير عن أنفعاله بالنص الى حد وجوب الكتابة؟ أم هوأداء لوظيفة في الوجود التي (اختارها هو) ان يمون ناقداً؟ من هنا كان للمقالة النقدية أفقها النظري تعريفيا اكثر من كونه موقفا نقدياً أو رؤية تمتلك سمة النقدية. رصدت فيه المؤلفة الأثر الأخر(الأجنبي) المنتج للمنهج النقدي وتأثيراته في القبول النقدي العربي،ومن ثم تطبيقاته،((ولأن النقد علم، فليس من اليسير التغافل عن الصراع الوظيفي فيه، فهو في متناول من يسعى اليه لكل علم، واذا تكاثر الساعون صارلابد من أثبات التمايز والاختلاف عن الغير،وهو مايتجلى في الكتابة النقدية حصراً)) ص149.
((الشعراء نقاداً.. المفهوم والتمثلات)) كتاب بحثَ في موضوعة هامة على مستوى التدقيق والتمحيص في الأثر التاريخي للشعر العراقي المعاصر،وأجادت فيه المؤلفة د.أماني حارث الغانمي،في الاشتغال على آليات محدثة في الدرس النقدي والأكاديمي، عبر محاورها في البيانات الشعرية والتجربة والسيرة الشعريتان،أليات اعتمدت التحليل النقدي للظاهرة ومن ثم العمليات الإجرائية التي استخدمتها في لغة بالغة الوضوح والدقة،وبأسلوب ادبي غير متعالٍ للمتلقي الباحث عن هذه الظواهر.