العبارة والعبر الغائبة

يبدو ان الأقدار لم تطق تطفل ذلك البلد الهادئ “نيوزلندا” على ما اختص به هذا الوطن القديم، في مجال الكوارث والضيم والمحن، لتاتي فاجعة العبارة في الموصل، كي تعيد له الصدارة فيما عرف به بين البلدان والامم من احتياطات هائلة للحزن والقهر والظلم. عشرات الضحايا غالبيتهم من الاطفال والنساء (أكثر من 100 ضحية) غرقوا في مكان وجد اصلاً من اجل تقديم الخدمات الترفيهية للعوائل الموصلية (ضفاف نهر دجلة وجزيرة أم الربيعين)، وفي يوم النوروز (21/3) عيد الربيع والتجدد والفرح، والذي حولته عبارة الموت الى يوم حداد وطني حزين. وكما هي العادة على تضاريس هذا الوطن المستباح، حيث تستنفر الجهود والاجهزة والملاكات المسؤولة (بعد وقوع الفاس بالراس) نقلت وسائل الاعلام خبر اعتقال مدير الجزيرة السياحية وصاحب العبارة المشؤومة وعدد من العاملين في ذلك المكان، على امل ان تكشف اللجنة المشكلة وخلال 24 ساعة عن الأسباب التي تقف خلف تلك الفاجعة والمسؤولين عنها. وفقا لنوع الهموم والاهتمامات التي تشغل عقول وقرارات الجهات المتنفذة في المشهد الراهن، فان هذه الفاجعة ستلتحق بما سبقها على هذا الطريق، ليس هذا وحسب بل تحولت سريعاً الى حقل للاستثمار في بازار الاستقطابات والتصفيات السياسية المحتدمة في الموصل والعاصمة بغداد.
رحل الضحايا من دون أي ذنب أو سبب، سوى ان منظومة الفساد التي لم تستثني شراهتها ولا مسؤوليتها الاماكن التي وجدت كملاذ للراحة والامن والفرح؛ قد ولجت الى أطوار لا يسبر غورها الراسخون في علوم الفرهدة وتقاسم الأسلاب. لا شيء غير الغضب والاستياء وردود الافعال الانفعالية والمتشجنة، والتي لن تنجو من الاستثمار الفئوي والشعبوي الضيق، والذي سيخفت في نهاية المطاف ليصب خراجه واستثماراته بجيوب حيتان وقوارض المشهد الراهن. المعلومات الاولية تشير الى ان الحمولة الزائدة، حيث كان على ظهرها أكثر من 170 شخصاً، أي أكثر من ضعف حمولتها القصوى (75 شخصاً) هي سبب رئيس لانقلاب وغرق العبارة، والتي جاء تشغيلها مخالفاً لتحذيرات وزارة الموارد المائية بذلك الشأن. وهي مؤشرات تؤكد وقوع مثل هذه المنشات تحت تصرف جهات شرهة ولا مسؤولة، تعمل من دون ادنى خشية من رقابة ومتابعة رسمية، وما جرى عينة عما يحصل في غالبية مفاصل الدولة والمجتمع، حيث تغطي الكتل والاحزاب المتنفذة شبكات الفساد الكبرى في بلد تصدر قائمة البلدان في ماراثون الموت المجاني والفساد المالي والقيمي والاداري.
لا يوجد من يصغ لناقوس عبارة الموت وصرخات الضحايا في جزيرة الاعراس، ولما يجري في ثاني المدن العراقية بعد العاصمة بغداد. ولن يتحمل أحد مسؤولية ما جرى، ما دامت شماعة الأشباح وفقه القاء التهم على الآخر جاهزة ومتوثبة دائماً بين حيتان المشهد الراهن. سيتم التضحية ببعض الدمى، لكن الامل بانعطافة في التعاطي مع مثل هذه الكوارث والنكبات ما زال بعيدا وخافتاً، حيث القرار النهائي في مثل هذه القضايا والملفات رهن اشارة غيلان وعرابي هذه الشبكات الاخطبوطية الممتدة لكل مشاريع واستثمارات “مرحلة البناء واعادة الاعمار” التي كانت بحاجة الى روح الايثار وقوافل العمل التطوعي لا اللصوص وسماسرة الفواجع والمحن. ان هذه المأساة الانسانية أكبر واعظم شأناً، من فساد في منشاة او عطب في عبارة او غير ذلك من العلل الجزئية، علينا ان نتعقبه في كل هذا العجز عن انتاج الضد النوعي لداعش واشباهها من قوارض المنعطفات التاريخية، في الفشل باعادة الروح للمشروع الوطني والحضاري..

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة