محمد خضير
- درب الدفلى
هناك شجيراتُ دفلى على امتداد الدرب، تزهر بورودٍ بيض وحمر، وتُرضِع فمَ الشاعر بعصاراتها الحليبية. أتذكّرُها شجيرات دربٍ في ضاحية المدينة التي بدأت بتحديث شوارعها وتعبيدها ورفع لافتاتٍ جذابة على مرابعها ونواديها. لكن درب الدفلى الأغبر ظلّ على سكونه، مربضاً للأرواح الشاعرة، وممشى لحسناوات الشاعر المحروم.
كنت أسلك هذا الدرب من بيتنا إلى مدرستي الابتدائية، بجوار نهر تشتبك في أعماقه الطحالب، تتسلل خلالها أسماك «الحِمري» حتى تبلغ الناظم، فتأذن لي بالانعطاف إلى وسط شارع معبَّد، مودَّعاً بشذى الأزهار الفوّاح. وفي يوم من أيام عودتي من المدرسة، شاهدتُ جنازة، يحملها بضعة رجال وتتبعها حفنة نساء نادبات، تدخل الدرب وتغيب بين ربوات متفرقات على جانب منه. لم أفطن لوجود هذه المقبرة التي كانت مدفناً للموتى الأطفال، إلا بعد إتمامي الدراسة المتوسطة وقراءتي أبيات المعري المنظومة حول حكاية الأجيال الهالكة دهراً بعد دهر.
ثم مرّت سنوات، فصدر ديوان السياب «قيثارة الريح» الذي يحوي قصائده المنظومة في مقتبل حياته، وكانت قصيدة «ذبول أزهار الدفلى» واحدة مما نظمه في العام 1944:
«لذَعَ الأوامُ أزاهـــرَ الدَّفِ
فذَوَتْ كما يذوي سنا المُقلِ
كانت تعبر النهرَ حمرتُها
فيضيء فيه الموجُ كالشُعَلِ
كم زيّنتْ بالأمسِ لبّتَه
بقلائدِ المرجانِ والقُبـَلِ
واليوم أطفِئ نورُها وخبَا
فكأنها لم تَنَْ أو تَملِ - صورة على جدار
سبقَنا بدر شاكر السياب بوقتٍ قصير الى المكان الذي أحببنا أن نأتيه بين يوم ويوم لنلمس أثراً منه. هذا المكان كان المكتبة العامة في البصرة بإدارة السيد محي الدين الرفاعي.
لم ألتقِ السياب وجهاً لوجه، قطّ، إلا أنّ صورته قارئاً كانت معلقة على الجدار في قاعة المطالعة، تشير إلى جلوسه قبلي حول طاولة المطالعة الخشبية الطولية الشكل، المدهونة بالورنيش. لا يوجّه السياب نظرتَه على الكتاب المفروش أمامه، إنما يرسل طرفاً ساهماً الى نقطة ما خارج الصورة بتدرجاتها الرمادية. في تلك الخلوة المكتبية تخيلتُ الشاعر يهبط من صورته ليقابلني على الجانب الآخر من الطاولة العريضة، مع الكتاب الذي يفرشه أمامه.
لم يكن لصورة السياب المعلقة في المكتبة العامة عُمر، إذ كان يبدو في ريعان الشباب، إلا أنّه حقيقةً تجاوز مرحلة الشباب، ودخل مرحلة المرض، ووسواس القهر الرمادي. وكنت أخمّن ما يقرأه السياب في الكتاب، ديواناً لأبي شبكة أو لأبي ريشة، فأهرَع إلى أدراج الفهرسة التي تحوي أسماء المؤلفين البادئة بحرف الألف، غير أن البحث كان يأخذني إلى مؤلفين من أمثال أهرنبورغ وإمرسون. وكنت أظنّ السياب شاعراً ريفياً معتزلاً فتردّني الصورة المعلقة إلى حاضنةٍ مدنية برجوازية.. وكنت أظنّه شيوعياً فإذا مقالاته في جريدة «الحرية» ذات الاتجاه القومي تنزع عنه رداءَ الانتماء الأحمر..
هكذا حسبنا السياب شاعراً تموزياً متمرداً، فيما ظلّت صورته المعلقة في قاعة المطالعة بالمكتبة العامة ترسل إشارات ماكرة عن شخصيةٍ تجاوزت فراستنا وتاريخنا الشعري المنمَّط.. - ارسُمْ ولا تمحُ
ما أمسُنا وحاضرُنا وغدُنا إلا رسماتٌ غائرات/ شِعريّاتٌ بازغات في وجدانٍ بعمر نخلة أو جدارٍ طينيّ يقف كمعجزة إزاء تنور ملتهب.. رسماتُ طفلٍ يلهو بمسبحة جدّه، مؤذّن المسجد القديم.
رسومُ الوجدانِ الجمعي، حُفَرُ الجدار، لهبُ التنور، شعريّاتُ دخولِنا إلى الفسحة التي تشغلها مئذنةُ المسجد القديم ونخلتُه السَّحوق.. مَن غرَسَها، ومَن أرواها، ومَن كرّبها ولقّحَها وجنى ثمرَها؟
ما أدرى الطفلَ الذي تحوطه الرسومُ من كل جانب، بما يخبئه الجدار؟ ما الأيام إلا مسبحةٌ بيد مؤذّن المسجد يعدّ عليها سُبحاناتِه، فيظنّ الطفلُ أنه يعدّ بيضاتِ دجاجاتِه. ما أدرانا بمستقبل الاثنين: المؤذّن الذي قضى وطرَه من الدنيا، والطفل الذي يجهل سبحانات ربّه؟
ما أدرانا، فالرسماتُ الغائرات/ الشِّعريّات الريفيّات لطفل الأمس ستغدو أطلسَ موّاراً يؤرّخ للجدار والمئذنة والتنور. أما الوجوه التي صنعَت مستقبلَه، وعدّتْ أيامَه على خيط المسبحة، فستغيب أو تتشابه كجذور النخلة او بيض الدجاج.
واهٍ.. من أين لنا بقاموس نعدُّ عليه كلماتِنا التي نؤرخ بها مستقبلَ الطفل الشاعريّ؟ نعود للرسوم، نرتّب بوساطتها الخطوات والأفعال التي لم تكتمل، الخطوطَ والبقع والأشكال التي لا تنفصل عن موضعها بجوار حائط المسجد. من أين لنا بمسبحة الأيام؟
سبحانَك أيها الأزل الذي لا يشيخ.. سبحانَك أيها الجمال.. نحن تائهون في حدائق الوجوه!
يا طفلنا الوسيم: ارسمْ ما اختلطتْ عليك جذورُه وفروعُه وثمارُه.. ارسُمْ ولا تمحُ.. فما الأيامُ إلا مسبحةُ مؤذن!