د.حاتم الصكر
أيتها العربة ذات الخيول المطهمة انطلقي
لقد قُضي الأمر
ولا سبيل للاستدارة أو الرجوع
..لقد دُفع الحساب سلفا
أيها القبر كن زقورة، يا رياح برلين كوني رقيقة
حسين عبداللطيف: أمير من أور
في وداع حسين عبداللطيف – هكذا مجردا إلا من الذكرى التي نشدها كثيرا في شعره وتخيل رأسه ذات قصيدة: شاشة أو مصيدة- أجد من الاستعادات لمناسبة احتكاكي بشعره ما ختمت به كتابي بريد بغداد حول ما تصلنا من اخبار مرضه ونحن في مغترباتنا ومنتثراتنا المكانية الجحيمية وأقاصينا التي ألقت بنا الرياح مرغمين إليها ، وكذلك ما كتبته حول مرثاته الطويلة في ديوان كامل للرسام أحمد أمير،وجدت فيه استباقاً من حسين لمواجهة ثعلب الموت كما أسماه السياب ذلك الثعلب الذي يسرق حيواتنا كما يفعل بدجاج القرى الملتم حول بعضه خوفا.
كان حسين مغردا خارج سرب الشعراء.يعز على التصنيف جيليا؛ فحيوية قصيدته لا تدعنا -نحن المتقصين لحداثته- أن ندرجه في خانة جيل كالستينيين مثلا :فهو ينفرد عنهم بموسيقاه التي لم يفارقها حتى تحول لقصيدة نثر أقرب إلى إيقاعات القصيدة حرة الوزن دون طلاق كامل لبداياته .في أمير أور -أحد أعمال حسين الأخيرة المهمة – يواجه عبر موت الصديق موته هو .تماما كمرثاة جلجامش لأنكيدو الذي أدرك من خلاله أنه سيغدو غداً ترابا.لكن حسين يحول ذلك كله لشعرٍ صافٍ هو روحه ذاتها حين كان بيننا ينثر فرحه ويخفي عناءه.
نار الذكرى
مواطن آخر من بصرياثا يجسد عالمها اليوتوبي الذي استدعاه ورسّخه محمد خضير سرديا ، وعمّقه شعريا حسين عبداللطيف الذي لم يكن النقد الشعري العراقي المفتون بالتجييل قادراً على ضمّه داخل موجة من بحر الشعرية الصاخب أو رهْنِه بمزاياها ، فكان منفردا يعزّ شعره على المماثلة والتشبيه ، ذاهبا لصوره ولغته وإيقاعاته وحدها.
ألْفته نقلت قصيدته إلى عالم خليقي يناظر استدعاءات الرسامين الشبان للكون البدئي البكر قبل أن تمتد يد الإنسان لتشوهه بالديكورية والمظهرية ،فتحاذي المخيلة وعيا طفلا وإحساسا مبرّأً يؤاخي القطرب والهدهد والجَمل ، والنارَ والدخان والسماء ، النار التي يقول عنها في هايكو مختصر وتوقيع بليغ:
تحتدم غيظا
لأن لهبها أكثر فتوة ً منها
الدخول الحيي والمثير معا إلى باطن الأشياء وروحها السرية واستبطان وجودها الصامت البعيد هي ميزة حسين عبداللطيف الذي يترجمها حياتيا بوجوده في الذاكرة : إنساناً بسيطاً تألفه سريعا لتغريك سماته باكتشاف الشاعر داخله، والكائن اللماح شديد الملاحظة.
كنت أرقب الحزن في ذبول عينيه وسحنته السمراء وحدود جسده الذي يعطيه عمرا أكبر ، كأنما ليزيد التباسات حقيقته الستينية والحقبة المحتدمة فكريا وشعريا، حزن لا تموّهه سخريته التي يواجه بها الضنك والسنوات العجاف التي يقول عنها في نص آخر نشره في نصف التسعينيات الأول:
سنوات ؟
أم تلك ضرائبْ
لمَطالبِها… ما من حد؟
..هل أملك نفسي الجمعة
لأبعثرها السبت؟
هل أختلق الذكرى
كي أضرب صفحا عن ذكر الغد؟
يتمدد إحساس حسين عبد اللطيف بالزمن ليفيء على الأشياء نفسها ويرى ارتباكات الإنسان ومكائده ومصائده:
كلما وضعوا سمكة
فوق مائدتي
كان في الصحن
ما يشبه الشبكة
لذلك ينعى حياةً كان رأسه فيها (شاشةً أو مصيدة) كما يقول في إحدى قصائده المبكرة ، ورضيَ بسبب هذا الألم أن يكون في وضعٍ يلخصه عنوان ديوانه ( على الرصيف أرقب المارة ) مكملا دورة العزلة التي يلخصها كذلك مواطنه الراحل محمود البريكان بوضع (حارس الفنار) المنعزل في الأعلى ولكن المطلّ على التفاصيل كلها.
هذا الموضع السردي في قصيدة حسين عبداللطيف وهبهُ التشكل في غمار الحياة اليومية بعيدا عن تشابكاتها وعُقدها أيضا ..لكن ذلك لم يمنع –للأسف- زحفَ الوهن على جسدٍ ناءَ بأعباء الروح..