في بيان لها بشأن مقترح قانون الجرائم الالكترونية المقدم الى مجلس النواب العراقي، اعتبرت مفوضية حقوق الانسان “الاسراع في تشريع هكذا قوانين أمر جيد؛ للحفاظ على أمن الدولة، لكون البلد أمام انفتاح كامل على العالم، وهناك حرية غير مسبوقة…”. من خلال هذا البيان وغيره من المواقف تكشف هذه المفوضية وغيرها من المفوضيات، والتي وجدت اساساً لرعاية وحماية الحرية مقابل خطر تغول السلطة، عن نوع الاهتمامات الفعلية لها “الخشية على أمن الدولة من الانفتاح والحرية غير المسبوقة”. مثل هذه التوجهات تكشف ايضا عن عجز مثل هذه الهيئات عن فهم وظيفتها البعيدة تماما عما يفترض اننا قد تخلصنا منها، أي الوصاية على عيال الله. كما انها تؤكد بذلك عن تبعيتها لفرمانات وميول الكتل المتنفذة وحساسيتها بكل ما يتعلق بهذه المفردة المارقة (الحرية). عندما نتمعن قليلا بمعنى العبارة التي اخترناها كعنوان لمقالنا هذا؛ نجدها تشير الى ان “الحرية” قد ولجت في مضاربنا المنحوسة، الى أطوار لم تعرفها البلدان الاخرى، وهي بالمعنى الذي يشيرون اليه، قد تجاوزت الحدود المرسومة لها، وهنا ياتي دور “اولي أمر الديمقراطية” ومفوضياتها كي تشد من أزر المؤسسة التشريعية الاولى في هذه الحرب المقدسة.
لكن هل تنطبق حقاً هذه العبارة وما يحصل لدينا في مجال الحريات؟ في العودة قليلا الى الماضي القريب أو البعيد؛ سنجد صعوبة في العثور على اي أثر يشير الى وجود هذه النعمة (الحرية) التي اندثرت في تضاريسنا الجغرافية والقيمية، ولا سيما في حقبة ذلك الكائن الخرافي الذي “اذا قال…قال العراق” عندما بسط هيمنته المطلقة على كل تفصيلات الحياة في هذا الوطن المنكوب بوباء الاستبداد والعبودية غير المسبوقة..! كما ان محاولات اعادة الروح لها بعد زوال النظام المباد، اصطدمت بطبيعة القوى التي تلقفت مقاليد امور “التغيير” حيث تقبع الحرية كهدف في قعر اهتماماتها واولوياتها، وهذا ما تضمنته تقارير المنظمات الدولية والمحلية المعنية برصد قضايا الحريات وحقوق الانسان، والتي لم تشر اي منها الى ما اكتشفته مفوضية حقوق الانسان حول “الحرية غير المسبوقة”. ما يمكن التعرف عليه لدينا هو عكس ما اكتشفته المفوضية؛ حيث الاغتراب الطويل عن هذه المنظومة الحداثوية وتقاليدها ومدوناتها، والذي القى بظلاله الثقيلة على عملية الانتقال صوب الديمقراطية والتعددية والحريات.
آخر ما نحتاج اليه؛ هو رفد ما لدينا من احتياطات هائلة للخوف والخنوع، بالمزيد من التشريعات والفرمانات التي تعزز من هيمنتهما على عقول وارادة العراقيين المترددة أصلاً، والتي هي اليوم بامس الحاجة الى كل ما يرفد ما حرموا منه طويلاً؛ أي حرية التعبير بكل اشكالها ومستوياتها. كما ان الخشية على “أمن الدولة” لا يأتي من “الحرية غير المسبوقة” أو الانفتاح على العالم بعد اغتراب طويل عنه؛ بل مما تجيده مضاربنا في مجال تغول السلطة وتعدد الجهات التي تفرض قوانينها الخاصة على المجتمع تحت شتى الذرائع العقائدية العابرة لمصالح البلد العليا. ان الخطر يأتي من فهم هذه السلطات والاجهزة التابعة لها لهذه التشريعات ونوع تطبيقها، حيث يفتل عنقها غالباً الى ما اعتادت عليه من منحى وسلوك، لا سيما في مثل هذه المناخات والاصطفافات التي تفتقد لقوى منظمة وفاعلة تنبري للدفاع عن هذا الوافد الغريب (الحرية)..
جمال جصاني