لا يمكن فصل ما يحصل لدينا من نحس وهزائم وانسداد للآفاق على شتى الاصعدة السياسية والاجتماعية والمعرفية، عما يجري لدى فئة العاملين في مجال الثقافة والفكر والاعلام (الانتلجينسيا). ولن نجافي الحقيقة عندما نقول ان “ام هزائمنا” والتي انحدرت من رحمها كل انواع الهزائم الاخرى؛ تتمترس في هذا الميدان الحيوي، المتخصص في مجال العقل والضمير الانساني. لقد تمكن النظام المباد ومؤسساته التوليتارية المستندة الى احتياطيات هائلة من موارد النفط، واساليب لا مثيل لها من البطش والقمع والارهاب والترغيب، وموروثات لا حدود لها من تقاليد وسرديات شيطنة الآخر المختلف، من تصفية وتعطيل ومسخ غالبية العاملين في هذا الحقل.
هذا الخلل والعطب البنيوي (سكراب الانتلجينسيا) تحول مع القادمون الجدد للغنيمة الازلية الى حقل للاستثمار، حيث استقطبت مؤسساتهم واقطاعياتهم السياسية وفصائلهم ومنصاتهم التعبوية، اعداد واسعة من هذا الحطام المتخصص في نقل عدته وديباجاته من كتف الى كتف آخر.
كما ان عدد غير قليل ممن ظل منهم خارج تلك الاصطبلات الرسمية والحزبية، لم ينظم اليها لا لموقف مبدئي منها، بل غالبا ما ينتظر شروطاً افضل للالتحاق ببقية القافلة. ومع مثل هذه الخارطة من الاصطفافات والاهتمامات والمعايير والميول، للعاملين في الحقل الاشد تأثيرا وفتكا في حياة المجتمعات والدول، لا يمكن توقع غير ما حصل لنا من كوارث على شتى الاصعدة المادية والقيمية. مثل هذه المناخات الطاردة للمثقفين الحقيقيين، تقف بالمرصاد لكل محاولة شجاعة تسعى لايصال المعرفة والمعلومة لمتلقي اغترب عن عالمه بتأثير “الوعي الزائف” الذي تبثه منابر ومنصات أشباه المثقفين والاعلاميين والمتجحفلين معهم من سكراب الانتلجينسيا.
هذا المشهد العام البائس لا ينفي وجود جهود ومبادرات فردية شجاعة، عملت بكل شجاعة وايثار كي تخرق هذا الحصار المفروض على الوظيفة الاساسية للعاملين في مجال الثقافة والمعرفة والمعلومة، وما النهايات المأساوية لعدد منهم الا دليل واضح على مدى حرص قوى التخلف والاستبداد على بقاء هذا الحقل حكراً لهم ولمنتسبي اصطبلاتهم الاعلامية والتعبوية.
ومن الاهمية بمكان الاشارة الى نوع آخر من المنتسبين لنادي الانتلجينسيا، وهم لا يقلون خطراً عن منتسبي تلك الاصطبلات؛ بالرغم من عدم انتسابهم الرسمي لها، الا انهم يلعبون (بوعي او دونه) دوراً مكملاً لمشروع ذلك الحطام الثقافي، عبر انسياقهم خلف نزعات وتطلعات نرجسياتهم المتورمة.
ذلك الوباء الذي اكتسح الكثير من العاملين في هذا المجال، حيث يتضخم عندهم “منجزهم” المتواضع في الحقل الذي تواجدوا فيه، لا سيما وان مناخات الشللية و الاخوانيات ومعايير “حك لي احك لك” هي السائدة والمنظمة للعلاقة بين بعضهم البعض الآخر، مناخات تجعل من الصعب العثور من بينهم على من يمارس الوظيفة الاساسية للمثقف (النقد) داخل هذه الجماعات، وان صادف ان خرق احداً ذلك فسيعرض نفسه للنبذ والاقصاء من قبلهم جميعاً. بالرغم من ضعف امكانية هذه الفئة ومحدودية تأثيرها، الا انها تؤدي دوراً في استمرار هذه الحلقة المفرغة من الهزائم وانسداد الآفاق. على العكس من انصاف المثقفين الغارقون باورام نرجسياتهم وفقاعات منجزهم، لا يمتلك المثقف الحقيقي الوقت لمثل هذه الاهتمامات الضحلة، وغالبا ما نجد غالبيتهم بعيدون عن الشهرة والاضواء، ليس هذا وحسب بل تعرفت البشرية على اهمية وادوار وعظمة العديد منهم بعد رحيلهم، ليأخذوا مكانتهم الطبيعية بين القافلة الأكثر توهجاً بين البشر…
جمال جصاني
سكراب الانتلجينسيا
التعليقات مغلقة