عبد علي حسن
تتشكل ملامح الأجيال الأدبية وفق معادلة غاية في التعقيد يسهم طرفاها الشكل والمضمون والعلاقة بينهما في تكريس واحد من سنن التطور والتحديث المهمة ،ألا وهو قانون وحدة وصراع الأضداد . إذ ان المنجز الأدبي يقوم بتمثيل المرجعيات الاجتماعية والتأريخية السائدة في البنية الاجتماعية . وحينما يحصل أيما تحول أو تغيير في تلك البنية فانه ينتج مضامينا اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة تعجز الأشكال الأدبية السائدة عن استيعاب تلك المضامين ، فيحصل تناقض وتضاد بين الأشكال القديمة والمضامين الجديدة يسفر عنه ظهور أشكال جديدة تستوعب تلك المضامين فتدخل في وحدة معها الى ان يحصل تحول آخر في البنية الاجتماسياسية ينجم عنه صراع جديد بين الأشكال والمضامين يسفر عنه ظهور أشكال جديدة ..وهكذا يفعل هذا القانون المادي الديالكتيكي فعله في تطور وظهور الأشكال الأدبية الجديدة .على ان مهمة البحث عن الأشكال الجديدة وتخليقها إنما تقع على كاهل مجموعة من المبدعين استجابوا للتحول الاجتماعي الجديد ويشتركون في السمات التي تستجيب لذلك التحول عندئذ تتشكل ملامح جيل أدبي يسهم في تمثيل المضامين الاجتماعية الجديدة عبر أشكال جديدة تتناسب وتستوعب تلك المضامين والأمثلة على ذلك كثيرة وعلى سبيل المثال فان الملحمة كانت تقوم بتمثيل المرجعيات التي كرستها بنية المجتمع الإقطاعي ومستوعبة للمضامين التي أفرزتها التشكيلة الإقطاعية ولقرون طويلة فان التحول الذي حصل في المجتمع نتيجة صعود نجم البرجوازية في القرن التاسع عشر من الإقطاعي الى الرأسمالي حصل تناقض وتقاطع بين النمط الملحمي والمضامين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أفرزتها التشكيلة الرأسمالية.وكان من نتيجة هذا التناقض والصراع ظهور الرواية من رحم الملحمة لتتمكن من تمثيل المرجعيات الجديدة في المجتمع الرأسمالي . ولئن ارتبط ظهور الرواية بعصر الحداثة الأوربية فان ما طرأ عليها من تنويعات شكلية إنما لاغتناء المجتمع بمضامين متحولة ضمن تشكيلة المجتمع الرأسمالي حتى ظهور الرواية الفرنسية الجديدة التي كانت رد فعل للأوهام التي كرستها الرأسمالية للخروج بالمجتمع الى منطقة النور الإنساني المزعوم .فتحولت الرأسمالية الى الكولنيالية والكولنيالية الجديدة فظهرت في منتصف ستينيات القرن الماضي الرواية الجديدة التي يحرص الفرنسيون على تسميتها باللارواية لتتناسب والوجه البشع الجديد للرأسمالية ..بعد ان مرت هذه اللارواية بمخاض عسير قبل منتصف القرن الماضي والإعلان عنها في الستينيات .
ووفق العملية المشار إليها آنفا فإن الأشكال الأدبية الجديدة تظهر كحاجة موضوعية لتستوعب الحراك والمضامين الجديدة لتتمكن من تمثيل مرجعياتها على شكل مضامين جديدة ، وهنا يبدو أن المضامين الاجتماعية الجديدة تفترض حصولها حركة التطور الطبيعي في المجتمعات أما الأشكال الممثلة لها ينبغي ان تحمل سمة التجديد والتجاوز ..وعليه فان التجديد معيار الأشكال لان المضامين متحولة دائما .حصلت هذه العملية منذ بدء النشاط المعرفي والإبداعي للإنسان ولا تزال وتعد واحدة من سنن تطور الأنماط والأجناس الأدبية التي يتبناها جيل جديد ذو سمات مشتركة يحمل لواء التجديد وتخليق الشكل المعبر عن تجاربه الممثلة للمرجعيات الاجتماعية والتاريخية في منجزه الإبداعي ..هكذا يظهر وتتشكل ملامح الأجيال الأدبية المتعاقبة .
وبقدر تعلق الأمر بالشعر العراقي فإن هنالك جدل يثار بين الفينة والأخرى ينقسم فيه المعنيون بالشعر العراقي من نقاد وشعراء وباحثين الى قسمين الأول يقر بوجود أجيال شعرية ظهرت على نحو متعاقب / الاريعيني/الخمسيني /الستيني/السبعيني /الثمانيني/التسعيني .وينتظر ان يسفر العقدان الأول والثاني من الألفية الثالثة عن ظهور جيل جديد يتمثل المرجعيات الاجتماعية التي ظهرت عقب التحول في البنية الاجتماسياسية في نيسان 2003 ..وقسم آخر ينكر وجود تحقيب تجييلي للشعر العراقي وإنما هنالك شعراء تمكنوا من طرح مشروع شعري متميز واستمروا وهكذا يظهر شعراء بشكل مستمر ومتعاقب دون تقديم مبررات ظهور هذا الجيل أو ذاك .يجدر الإشارة الى انه ليس هنالك مدة زمنية محددة لظهور الجيل كما حصل في الأجيال الشعرية العراقية .وبهذا الصدد نشير الى ان سبب التحقيب العقدي هو ظهور متغيرات اجتماعية في كل عقد من العقود بدءا من أربعينيات القرن الماضي الذي شهد ظهور جيل التحديث الشعري الثاني بعد التحديث الشعري الأول الذي شهد ظهور الموشح الذي عد الزحزحة الأولى لنظام الشطرين الذي ظل راكزا في البنية الثقافية العربية لقرون طويلة حتى كان التحول الصحيح في بنية المجتمع العربي وانتقاله من البداوة الى التمدن وما رافق هذا التحول من استقرار في البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فظهر الموشح ليستوعب معطيات هذا التحول الذي انعكس في بنية الشعر العربي . أما قصيدة التفعيلة التي شكلت التحديث الثاني في الشعر العربي فانها تعد استجابة واستيعابا لحركة المجتمع العراقي الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية وما نجم عنها من تحولات وظهور مضامين اجتماعية جديدة والى هذا المعنى أشارت الشاعرة نازك الملائكة في كتابها المهم (قضايا الشعر المعاصر) مؤكدة على ان النظام القديم للشعر العربي(الشطرين) لم يعد يستجيب ويتناسب مع المجتمع العراقي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية .
وما ان حلت الستينات من القرن الماضي حتى بدأت تتشكل ملامح جيل جديد استجاب لمعطيات تحولات كبيرة وعلى كافة المستويات العراقية والعربية والعالمية .فعلى الصعيد العراقي تعرض اليسار العراقي لأعتى هجمة شرسة بحق المبدعين في شباط/1963 ..وتعرض العرب لهزيمة حزيران 1967 .واجتاحت العالم الغربي إضرابات الطلبة وبدأ عصر ما بعد الحداثة في 1968 في فرنسا ثم بقية بلدان أوربا ..لقد أسهمت هذه الأحداث والتحولات مجتمعة في ظهور مضامين اجتماعية وسياسية جديدة دفعت بالمبدعين الى تمثلها بأشكال وتقنيات جديدة تجاوزت المنجز الخمسيني وكرست لبنى فكرية وجمالية جديدة وسمت هذه الحقبة عبر منجزات جيل من المبدعين رفعوا لواء التحديث الثاني في حركية المشهد الثقافي العراقي في جميع الأجناس الأدبية، فضلاً عن الشعر ، وبهذا الصدد لايمكن تجاهل اطلاع المبدعين العراقيين على المنجز العالمي من خلال حركة الترجمة التي أسهمت كثيرا بتقديم الأنماط الجديدة في الشعر العالمي وتأثر المبدعين العراقيين بها.
وهكذا شهد المجتمع العراقي تحولا في بنيته الاجتماسياسية في كل عقد من عقود القرن المنصرم نجم عنه ظهور جيل ومجموعة من المبدعين تمكنوا من تمثيل تلك التحولات بتقنيات وأشكال ورؤى جديدة تناسبت وتلك التحولات ..
لذا فان التحقيب العقدي (عشر سنوات) لم يكن برغبة هذا الناقد أو ذاك وإنما فرضتها طبيعة التحولات البنيوية في المجتمع العراقي والتي حصلت في العقود المشار إليها ..لذلك فان جيل الحربين نطلقه على ما أنجز خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ، إذ شهد هذان العقدان قيام حربين ضروسين حرقت الأخضر واليابس وانتهكت الشخصية العراقية وعلى كافة الأصعدة ..
على ان أعتى واعنف انهيار حصل في البنية الاجتماسياسية العراقية هو ما حدث في نيسان/2003 نجم عنه تفتيت المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .وما تبعه من ظهور قوي للاحتراب الطائفي والديني والقومي عرض المجتمع العراقي لويلات لا نزال نعيشها ..إذ رافق تلك النزاعات بل وكان وسيلتها العنف المسلح الذي أودى بحياة الآلاف من العراقيين ومن كل الأعمار .. وإزاء هكذا تحول خطير وما افرزه من ظواهر اجتماعية خطيرة فان المبدع العراقي الذي أسهم مع جيله قبل 2003 في تشكيل ملامح الجيل الذي ينتمي إليه استمر بتمثل المعطيات الجديدة وفق مشروعه الإبداعي الذي تميز به ولكن سيظهر حتما جيل إبداعي جديد نشأ وعايش هذه التحولات سيلفت النظر الى طريقة تمثله للتحولات الجارية بأساليب وأشكال جديدة وليدة تلك الوقائع الحادة المعتملة في البنية الاجتماعية الجديدة ، وبعد اكتمال نضجها وامتلاك شرعية مشروعها التجديدي فانها ستظهر منبهة الى وجود جيل جديد برؤى وتقنيات وأشكال جديدة .وما على النقد العراقي إلا متابعة ومراقبة المنجز الإبداعي سردا وشعرا وتأشير ما يمكن ان يكون متجاوزا لما سبق من منجزات إبداعية وامتلاكها الرؤية الجمعية لتكون ملامحا لجيل جديد ممثلا لهذه الحقبة المعاصرة . وارى ومن خلال متابعتنا لما يطرح من منجز إبداعي ان هنالك ملامح أولية لجيل جديد يتمثل بمجموعة من الشباب أطلقوا على مشروعهم الشعري (ميليشيا الثقافة) منذ العام 2014 ليكون ردا ومعادلا موضوعيا للفوضى والدمار الذي يلحق بالوطن والمواطن كل يوم .. وقد أصدرت جريدة المدى والأديب البغدادية ملفات لشعراء هذه المجموعة وكما اهتمت بمشروعهم جهات ثقافية عربية وعالمية وعدتهم المشروع المناسب والمستجيب للحراك السياسي والاجتماعي العراقي الجديد، ويذكر ان عددا من شعراء هذه المجموعة مثل مازن المعموري وكاظم خنجر واحمد ضياء ووسام علي أصدروا دواوينا شعرية إضافة الى ديوانهم المشترك (الشعر في حقول الألغام) الذي صدر في كانون ثاني عام 2015 عن دار مخطوطات ، حملت السمات المشتركة لهذه المجموعة والتي يمكن إجمالها بالإفصاح عن حركية الواقع العراقي والاقتراب جدا من مشكلاته الوجودية، لقد انطلق هؤلاء الشعراء من محافظة بابل يجمعهم هم مشترك. فهم أبناء المحنة الوطنية وتمكنوا من خلال خلق وسائل تلق جديدة من الاقتراب من الواقع العراقي المر كاشفين عن الوجه القبيح للقوى المنتهكة إنسانية الفرد العراقي ..وننتظر ان تسفر جهود هؤلاء الشعراء من الشباب الى ظهور ملامح واضحة المعالم وتسم هذين العقدين بمنجزهم وليس شرطا ان يكون ظهورهم التحقيبي عقديا (عشريا) ..وعلى النقد العراقي مراقبة ذلك وتأشيره كيما نكون إزاء جيل إبداعي جديد .