مفهوم الخطاب في الفكر الفلسفي لأبي يوسف اسحاق الكندي

بشار الاعرجي

كان من جملة ما طرحه الفكر العربي والاسلامي من مواضيع وفلسفة دعمت بشكل أو بآخر بنية المنظومة الفكرية والفلسفية العربية والإسلامية من خلال نشر الطروحات الفكرية والعلمية والجمالية , وكان للقرآن الكريم اثرٌ واضحٌ في البنية الفكرية لفلاسفة الاسلام, بوصفها تراثاً فكرياً واجتماعياً واخلاقياً, مظهراً بنية ايديولوجية أسهمت في تبلور وتشكيل مجموعة من الاشكالات الفكرية والدينية والاجتماعية والاخلاقية . وكان للتأويل والتفسير مسرحٌ للاقتراب والافتراق والاصطدام بين تفارق الرؤية التي ادت بدورها الى تشكيل صياغات وإرهاصات فلسفية وعقلية متنوعة ومختلفة كمواقف وآراء المعتزلة والمتصوفة وغيرهم.
فقد كان للفلاسفة المسلمين خطابهم الفكري والجمالي الخاص بهم , الذي تواءم مع منظومة الخطاب الإسلامي وأيدولوجيته في البحث عن الإله وإثبات وجوده في الباب الاول , ومن ثَمّ تأتي الطرائق التي تؤدي الى الفضيلة, وكيفية نيل رضا الله من خلال عمل الخير والعبادة وغيرها , فالبحث عن الوجود وتفسير الكون وكيف تكون, هو ما شغل أفكار الفلاسفة عموماً والمسلمين والعرب بنحو خاص, لكونهم ملزمين أحياناً في التوفيق بين ما يذكره القرآن الكريم من حقائق , وبين ما يتوصل إليه هؤلاء الفلاسفة بتفكيرهم الخاص بهم , لذا فهم يبحثون عن خطاب تعادلي بين ماهية الوجود في القرآن وماهيته التي توصلوا إليها بأنفسهم , وذلك إلى جانب اهتمامهم بالموسيقى والطب والكيمياء وعديد من العلوم الأخرى .
ويرجع الفضل إلى الفيلسوف (ابي يوسف إسحاق الكندي) في التوفيق بين الفلسفة والقرآن, إذ « جعل الفلسفة من جملة المعارف الإسلامية , بعد أن وفق بينها وبين الإسلام , ففي أحد كتبه إلى أحمد بن المعتصم بالله , يذهب إلى أن كلاً من الدين والفلسفة يطلبان الحق , أما الدين فيسلك طريق الشرع , وأما الفلسفة فتسير على منهج البرهان , والفلسفة أعلى الصناعات الإنسانية منزلة , وأشرفها مرتبة , إنها علم الاشياء بحقائقها ..»(1) , لذا كان (الكندي) مهتماً بفتح الطريق أمام نفسه أولاً وأمام الفلاسفة الآخرين ثانياً , في إيجاد الأرض الخصبة التي تمنحهم حرية التعبير , وغرس بذور أفكارهم وإنباتها بشكل سليم ,وهذا يتبع من إحلال الحق الذي كان (الكندي) يقدسه ومخلصاً له , لأن في ذلك كمال الانسان , ويتم ذلك من خلال الفلسفة والبحث الدائم عن الحق , فهو يرى أن الفلسفة هي « علم الاشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان , ولأن عرض الفيلسوف في عمله ,العمل بالحق , … ويقول : ينبغي أن لا نستحي من الحق واقتناء الحق من أين أتى , وان اتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا , فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق , وليس ينبغي بخس الحق ولا تصغير بقائله ولا بالاتي به , ولا أحد بخس الحق , بل كل يشرفه الحق «(1) , فــ (الكندي) ليس متزمتاً في مجابهة المعلومات إذ جاءت من مصادر غير محببة لديه أو تعارض فكره , وذلك لكونه يعد الانسان باحثاً عن المعلومة وعن الحق أينما وجد ومهما كان مصدره بشرط صدقه وصحته , لذا عارض كل من يقول إن الفلسفة كفر أو حرام, لذا « رد على تهمة الفقهاء للفلاسفة بالكفر والزندقة والسفسطة , يقول : إن أعداء الفلسفة جهلة وأغبياء وتجار دين , ومن يتجر بالدين ليس له دين , ومن خالف عالم الاشياء بحقائقها , أي الفلسفة , وسماها كفراً يسيء إلى الدين ويصد عن السبيل المؤدي إلى الربوبية «(2) , اذ ان الفلسفة في خطاب (الكندي) تمثل الاساس الذي يستند اليه في تفسير الاشياء والبحث عما وراء الكلمات من اجل الوصول الى الحقيقة , ومن ثم تحقيق السعادة التي هي غاية الفلسفة , والتي عمل (الكندي) على وضع رسالة خاصة بها هي ( الحيلة في دفع الاحزان ) والتي تناول فيها السعادة والشقاء في الحياة , والتي يبتدئها « بتوضيح نسبة ما هو محبوب وما هو مكروه لدى الانسان .. فالذات تختلف من فرد الى فرد وكذلك الحسرات , والحكم على الحالة الروحية بالشقاء والسعادة امر مرتبط بالعادة وهو ما يعطي العقل دوراً# في اعادة تقييم الامور , ويرى الكندي ان الحزن قد ينشأ عن امر قد اصابنا فعلا او عن امر لم يصبنا ولكن نتوقعه , اذ لم يكن الامر قد اصابنا بعد فان الحزن لا داعي له , ومن يحزن فانه يؤذي نفسه , ومن يؤذي نفسه يكون احمق ظالما «(3) , كذلك يحدد (الكندي) مصادر السعادة والحزن , ويحدد متى يجب أن نحزن ومتى يجب أن نفرح , فهو يرى «ان اولى بالإنسان الا يحزن على ما فقده من ممتلكات , لأن ربط النفس بالممتلكات سيجعل الحزن واجباً بشكل مستمر لأننا سنحزن في كل الاحوال سواء اذا اقتنينا ( لان سنحزن على فقدانها ) واذا لم نتقنِ ( لأننا سنحزن لعدم امتلاكها ) واذا كان يلزم الحزن أبداً , كان من الأحرى ألا نحزن البتة , وبالنهاية علينا أن نعيش الحياة بكامل مصادفاتها أو لا نعيش , فالإنسان الذي يريد ألا يصاب بمصيبة هو اشبه بمن لا يريد ان يعيش «(4) , هذه النظرة التفاؤلية في خطاب (الكندي) تعمل على بعث الامل والتمسك بالحياة, من اجل العيش بسعادة مهما كان ما يرافق هذه الحياة من مصائب , اذ ان المسألة تقوم في قبول الحياة بما يرافقها من مصائب او اشياء جميلة .
وكان ( الكندي ) أحياناً عاجزاً في تعليله حركة الأشياء وتعدد الظواهر , لذا استعان بنظرية ( الفيض الإلهي ) والتي بموجبها « تتبع الأشياء جميعاً أو تفيض عن الإله أي تصدر عنه ومن ثم تتفرع بشكل حر تلقائي كما تنشر الشمس النور»(1) , فما يقف أمامه من عقبات أو مسائل لا يستطيع أن يفسرها ويعطي أسباباً مقنعة لكيفية نشوئها , يحاول إرجاع ذلك إلى الاله , قاصدا بها غاية خفية هي الاصلح للإنسان . ويمكن رصد اراء ( الكندي ) في رسائله الفلسفية, وإيمانه بثنائية المعرفة بشقيها العقلي والحسي , ويمكن بوساطة الحواس ادراك الجزئي او الصورة المادية , وعن طريق العقل يمكن إدراك الكليات ( الأنواع والأجناس) أي الصورة العقلية , والعقل لدى (الكندي) اقسام اربعة ( العقل بالفعل الأول (الله) , العقل بالقوة (الانساني), العقل كعادة (الإرادة) , عقل هو فعل الذي يحكم أفعال الناس (2), وهذه التقسيمات التي وضعها (الكندي) كانت أساس خطابه الفكري والجمالي .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة