محمد زكي ابراهيم
كثيراً ما كنت أسأل نفسي وأنا أقرأ مقالة لناقد، أو أصغي لمحاضرة من آخر. لماذا يجامل النقاد زبائنهم الأدباء في العلن، ويسرفون في لومهم في السر. ولماذا يتوددون إليهم في الظاهر، ويعرضون عنهم في الباطن. وكيف يبنون آراءهم بين شد وجذب، وقبول وإعراض. ويتنقلون بسلاسة بين هذا الطرف أو ذاك؟
ومع أنني لا أنتمي بحمد الله إلى أي طرف من هذه الأطراف، ولا أخشى من نقمة أحد منهم علي، إلا أنني جربت ذات مرة أن أجد لنفسي موقعاً بين المتخاصمين. وأن أتقمص شخصية الناقد الأمين الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم. فأنحيت باللائمة على أحد الشعراء المعروفين لأن قراءاته الشعرية التي سبقت الحديث، لم تكن ذات وجهة. وذكرته أن للشعر رسالة تتجاوز التلاعب بالألفاظ، والاستغراق في الخيال، والإمعان في الاستعارات. وأن ما جادت به قريحته لم تكن إلا صوراً سوداوية، لا تقيم حقاً ولا تدحض باطلاً. ولم أكد أنتهي من «النقد» حتى تضايق الرجل واغتم. وحزن وتألم. وفي المساء أرسل بضعة رسائل عتاب جعلتني أندم على ما قلت، وآسف على ما فرطت. ثم لم ألبث أن صالحته بكلام معسول، لم يغير كثيراً من برمه بي، وسخطه علي إلا قليلاً!
وأعترف هنا بعد سنوات أنني كنت مخطئاً حينما «جربت» حرفة النقد. فليست هي بالمركب السهل. ولا هي بالمرتقى الهين. بل هي في واقع الأمر منزلق خطير. وأقر هنا كذلك أنني لم أكن مصيباً عندما طبقت معايير النقد الاجتماعي على الأدب. فليست مهمة الأدب أن يجد الحلول، لمشاكل البشرية المعقدة، ولا وظيفته أن يقيل عثراتها المتكررة. بل إن مسؤوليته تنحصر في فهم العالم، وتصوير ما يجري فيه. وسر قوة الأدب هي في قدرته على التعبير عن نظرة الإنسان للكون، واكتشاف الحقائق الجديدة فيه.
ومع ذلك فإن شخصاً «طارئاً» مثلي قد لا يعبأ بإعراض واحد أو اثنين من أصدقائه المبتلين بحرفة الأدب، ولكن ناقداً «مزمناً» لا يمكن أن يفرط بهؤلاء. فماذا لو «اضرب» الأدباء عن الإنتاج. ماذا لو توقف الشعراء عن قرض الشعر، وأحجم الرواة عن كتابة الرواية؟ ماذا لو خلت الصحف من القصص والمقالات والأعمدة والدراسات الأدبية؟ ماذا سيفعل الناقد عندها؟ هل يلجأ هو الآخر إلى الصمت، أو يختار له مهنة أخرى؟
ربما يفسر هذا سبب المجاملات التي يتبادلها النقاد مع أصدقائهم من الطرف الآخر، والمعارك شبه الدامية التي يخوضونها في ما بينهم. فلا أحد يفرط بمصدر «رزقه» في يوم من الأيام. ولا أحد يجازف بخسارة زبائنه دون مقابل. أما زملاء المهنة فليس ثمة ضرورة لوجودهم تقريباً. بل إنهم في كثير من الأحيان مصدر ضرر وقلق. والاحتكار هو أحد أهم المفاهيم الاقتصادية التي تعول عليها المجتمعات الإنسانية في بقائها على ظهر هذا الكوكب. وقد تكون له امتدادات اجتماعية وثقافية أيضاً. فليست ثمة حواجز كبيرة تفصل بين الأفكار الإنسانية أو تباعد بين بعضها البعض، حتى لو كانت هذه الأفكار نقداً أدبياً!