تصفية الحسابات بين الضحية والجلاد

عبد السادة جبار

موضوع فيلم «رجل سكة الحديد THE RAILWAY MAN» لمخرجه الأسترالي « جوناثان تبيلتز « عن العقاب أو التصالح بين الضحية والجلاد، يلعب الأدوار الرئيسة فيه « كولين فيرث « و» نيكول كدمان «. الفيلم اشترك بعدة مهرجانات عالمية منها مهرجان تورنتو ومهرجان دبي وهو إنتاج مشترك بين أميركا وأستراليا، يصور قصة حقيقية أُخذت من سجلات الحرب العالمية الثانية ولم يزل بعض أبطالها أحياء، فهو فيلم يستذكر آثار الحروب وتركيبة المشتركين فيها وما تتركه من تأثيرات على تكوينهم السايكولوجي وحاجتهم الحقيقية للاندماج في زمن السلام، إذ يصور التعذيب والخوف والاضطهاد، ثم ينقلنا إلى مرحلة السلام والحياة الاعتيادية والعلاقات الإنسانية والحب والاستقرار، ولكن هل يمكن نسيان تلك الأيام القاسية التي تتحول الى كوابيس تطارد من عاشها، ووشمت آلامها على جسده وعقله وروحه. الفيلم وثيقة إدانة وتحذير وذاكرة انسانية.

قصة الفيلم

مهندس قطارات انجليزي « ايريك اوماكس « الممثل (كولين فيرث ) يلتقي مصادفة في أحد القطارات بامرأة جميلة « باتي « الممثلة ( نيكول كيدمان )، حيث يدور بينهما حديث عفوي لينتهي اللقاء السريع بنزوله في المحطة، إلا انه يكتشف بأنه يحبها، وبما انه يعرف مسارات القطارات وأوقاتها فيلاحقها لتكتشف هي أيضاً إنها تحبه فيتزوجان ليعوض حياته أيام الماضي المؤلم الذي كان يعاني فيه من ذكريات طاردته وتحولت إلى حالة مرضية لم تدرك زوجته أسبابها إلا بعد الاستعانة بصديقه الحميم الممثل (ستيلان سكارسيكارد ) ايريك لوماكس وهو أسير حرب لدى اليابان من قوات الحلفاء، وقد أرغما معاً على العمل الشاق في بناء سكة الحديد التي تربط بين تايلندا وبورما خلال الحرب العالمية الثانية. وقد تسببت هذه التجربة بصدمة ايريك وانعزاله عن العالم، وهنا يحكي لها عن تأثيرات ذلك الأسر المرير والتجربة التي مر بها أوماكس تحديداً، ومنها انه تمكن بذكائه أن يستفيد من تجميع القطع الكهربائية التي يسرقها من اليابانيين ليصنع منها راديو يستمع به للأخبار ليبلغ أصدقاءه سراً بأن الجيش الأميركي يحقق انتصارات على الجيش الياباني، فيكتشف اليابانيون الأمر ويظنون إن أوماكس كان يتصل بالقوات المقابلة ويدلهم على مكان المعسكر فيتعرض هو وأصدقاؤه إلى تعذيب شديد ومهين من ضابط ياباني مترجم « ناغازا» الممثل (هيروبوكي سابادا ) الذي يتحول إلى جلاد، كونه يحفر في ذاكرة أوماكس الآم تعذيب واهانات لا تنسى تستمر معه وتقض مضجعه، وحين تنتهي الحرب يفلت ناغازا من العقاب حيث يدعي انه مترجم وليس له علاقة بموضوع الأسرى، يعرف أوماكس أن ناغازا يعمل الآن كدليل سياحي في المكان نفسه، وتشتعل في داخله الرغبة في الانتقام إذ يلاحقه ليحقق العدل بنفسه بعد أن نجا من العقاب، ويتمكن منه حيث يعتقله بأمكنة التعذيب نفسها التي تحولت إلى مواقع سياحية، وكلما يحاول أوماكس شفاء غليله يتراجع في اللحظة الأخيرة، فلا تطاوعه ذاته على الانتقام، كان يجري المحاكمة معه ويحصل على الإدانة غير انه لا ينفذ العقاب. يعترف الجلاد بجرائمه « لقد دفنت وعذبت كثيرين بيدي هذه لكني أتعذب الآن»، يحاول أوماكس أن يحقق المعادلة عبر تقييده أو وضعه في القفص نفسه الذي وضعه فيه ويفكر بقتله، وهنا لايجد معنى لهذا الانتقام الذي يمكن أن يحقق له الراحة النفسية، كانت نية إيريك لوماكس قتل المترجم الجلاد، لكنه أراد أن يجعله يعيش قليلاً من الرعب الذي زرعه في نفسه، حاول تعذيبه ففشل، حاول تقييده، وفشل أيضاً، أودعه في القفص الصغير الذي كان يزج فيه أسرى الحرب، وأغلق الباب عليه، استسلم ناغازا له كأنه يريد أن ينهي حياته، استسلم للموت ولنهايته، أغمض عينيه معتقداً إن الأمر نافذ غير انه فتحهما ليجد إن حبل القفص قد انقطع بالخنجر الذي كان من المفترض أن يغرس في عنقه، يكتشف أوماكس إن الجلاد نادم ويعذبه ندمه، إذ تحول إلى ضحية يعذبها ماضيها و قد حول المكان بكل محتويات التعذيب والاعتقال إلى متحف كشاهد على آثار الحرب ونوع من التكفير عن الآثام التي ارتكبها ويعترف له انه آسف لا خوفاً من العقاب بل لشعوره بالعار، وهكذا ينتهي الأمر بالمصالحة والعناق حيث يبكي ناغازا بأحضان أوماكس وهو يردد أنا آسف.. يشير المخرج في نهاية الفيلم الى انهما تحولا الى صديقين حميمين لا يفترقان حتى توفي ناغازا العام 2011 ومات أوماكس العام 2012 ودفن الى جانب زوجته.

المعالجة السينمائية

كتب القصة الحقيقية الشخصية الرئيسة ( ايريك اوماكس ) والذي عاش أحداثها الفعلية، المخرج الأسترالي «جوناثان تبيلتز» قدم فيلماً مبنياً على الطراز الكلاسيكي خصوصاً في تصوير أجواء الحرب وتعذيب الأسرى وبناء السكة، بشكل ينقل المشاهد لهذا الزمن بجميع تفاصيله وآلامه وتداعياته، إلا انه كان مختلفاً عن تلك الأفلام التي حكت عن المرحلة نفسها، إذ تعامل مع القصة بأسلوب واقعي وشاعري في الوقت ذاته لكنه تجنّب تصوير مشاهد التعذيب القاسية بشكل مباشر، مع انه تمكن من توصيلها عبر مونتاج ذكي خلال مشاهد الفلاش باك التي ضمّنها بذكاء داخل مشاهد الحياة المدنية التي يعيشها أوماكس، اعتنى تبيلتز بالتفاصيل الفنية لإيصال الصورة بتجسيد حي مؤكداً على فكرة الموضوع الوثيقة، وفي السياق نفسه عالج الحالات النفسية والتأثيرات الإنسانية بلغة سينمائية شاعرية فكان الفيلم مزيجاً من الوثائقية التاريخية والواقعية الشاعرية، ومن المشاهد الرائعة تلك التي صور فيها محاكمة أوماكس لناغازا والمحاولات المترددة لمعاقبته، كما إن المشهد الأخير الذي صور فيه الندم الشديد لناغازا واحتضان أوماكس له داخل شق ضيق في جبل وهو مكان حقيقي، كان من أجمل المشاهد المؤثرة التي تدلل بعمق على معنى المصالحة الإنسانية بين الناس. لعب دور أوماكس الممثل الشاب جيرمي ايرفين الذي عاش مرحلة الحرب والتعذيب، في حين نهض الممثل كولين فيرث بدور أوماكس ما بعد الحرب وقدم أداء رائعاً لايقل براعة عن لعبه الدور الرئيس في فيلم « خطاب الملك «، تمكن كولين من أن يؤدي الشخصية الحقيقية ببراعة، مجسداً التحولات الأدائية في إبراز تلك الأعماق الغاضبة الساكنة وأيضاً السعي والإصرار على الانتقام والتردد في التنفيذ عند اللحظة الأخيرة، وقد لعبت الممثلة الأسترالية نيكول كيدمان دور الزوجة بالرغم من المساحة غير الواسعة لهذا الدور، إلا أنها كانت مميزة منذ اللقطات الأولى حتى نهاية الفيلم خصوصاً في المشهد الأخير وهي تراقب عناق المصالحة الرائع بين ناغازا وأوماكس والدموع تترقرق في عينيها بصمت مؤثر.

فيلم « THE RAILWAY MAN»، تمثيل : كولين فيرث ، نيكول كدمان ، هيروبوكي سابادا، اخراج : جوناثان تبيلتز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة