ميثم الحربي*
في أدبيات حقوق الإنسان الدولية، يتمّ تعريف مفهوم «الفئات الضّعيفة» على أنها مجموعات، وهذه المفردة تقابل «فئات». وهذه الفئات أو المجموعات تختلّ وتتفاوت عندما ترغب – وفقاً لحقها وحقوقها- في ممارسة تجلّياتها داخل مايُسمّى «السلطة العمومية»، التي تتسع بطيفها إلى فضاءات الحياة المُجتمعيّة المُتاحة.
وأهم ما يُسجّـل على نشاط تلك الفئات أنها تتسم بالقلّة، وتحوز على الحظوظ الدُّنيا لدى الولوج إلى مساحة المصادر الاقتصادية العمومية، كما إنها تتوغّل إلى نفوذ ضعيف، وباهت، ومُهلهل لدى حدث توزيع الثّروة الوطنية بسبب الآثار السلبية لــ «نقمة الموارد» المصاب بها بلد مثل العراق كما يعبر عنه الاقتصاديون. وهذه السمة الهشّة من التوغّل يجعل تلك الفئات، أوالمجموعات غير مُتمكنة من العثور على عيش اعتيادي، وتنمية ذاتية تتأطّر داخل أسلوب كريم بعيد عن أي علامة من علامات الزّراية سطحاً، وعمقاً. ويُحدّد التعريف المذكور تلك المجموعات الضّعيفة بثلاثة أصناف أو أبواب متعلقة بـ «السّن»، و»الجنس»، و»العرق».
ألبوم الانهيار
بعد الاجتياح الأميريكي في 2003، وجد العراقيون أنفسهم يتحركون في بنية تحتية اجتماعية سلبية. فالحياة التي تلقوها حافلة بالأذى والانتهاك أوصلتهم إلى أقصى حالات الانهيار الاجتماعي. ولم تعد مفردات مثل «الشعب. المجتمع. الحي السكني» تنطبق عليهم بدقة.
إنّ الفئات الضعيفة تتعدّى في عراق اليوم أصناف تعريفها المحددة بالسن والجنس والعرق. فهي تتسع إلى أصناف وتوصيفات أُخَر فهناك هجرة داخلية وخارجية. الأولى تتعلق بشريحة النزوح الداخلي الباحث عن مناطق أكثر أمناً هرباً من الأحياء الساخنة التي يَصطاف فيها الإرهاب والتفجيرات وعمليات الخطف والذباحون طوال السنوات الحالية وخصوصاً في بدايتها القاسية، وتداعياتها الحالية. وهناك شريحة المهاجرين إلى خارج البلاد خلاصاً من هاوية موت مُتراحِبة الأطراف اسمها العراق. وقد أدى نوع النزوحَيْن هذا إلى تدعيم السمعة السيئة للأحياء السكنية وبُعثت الرسالة القوية التي تفيد بانحطاط قيمة المنطقة الساخنة أمنياً حيث شغرت بيوتها من السُّكنى، كما عملت هذه الحركة على تدمير «المجتمعات المحلية» اصطلاحاً، وعيشاً فالأزمات السياسية ونزول النيران إلى الشوارع أكلت اللحم، ودكّت العظم، وفتكت بروح الدّهماء.
ومازالت الفئات الضعيفة تتمدد في صور مغايرة تتحدد بانتشار أحزمة البؤس وسكان العشوائيات الذين يباشرون اليوم عيشهم المزري على شكل ترهّلات ديموغرافية محرومة من الخدمات وتوفير الحاجات الأساسية المتمثلة بالتعليم، والصحة، وبقية المرافق العامة الداعمة لسلوك الحياة المجتمعية الحضرية كالمقاهي والنوادي الاجتماعية وأماكن تصريف الأنشطة للشباب. ولكن كيف يتم توفير كل ذلك في وقت تعيش فيه حتى المُدن المخلوقة من رحم تصاميم أساسية منقوصة الخدمات التي تدعم قابلية الحَيّ على الحياة!
إنّ تلك الفئات المدحورة، والمُستلبة الحقوق مائعة على شكل «شرائح» سائلة ولم تنضج بعدُ وتتصالب لتكوّن مجتمعاً. وهذه الشّرائح مفتوحة الجيوب الأمر الذي يجعلها فريسة سهلة، تتعرّض على الدّوام لتلاوين الاستقطاب والاستثمار في حقلها المغلوب على أمره من قبل قوى متنفّذة؛ فهي عارية عن أيّ مناعة، وتعد أرضاً خصبة للإستهلاك: سواء الإستهلاك من قبل أفكار أو شّائعات، أو أي هذيانات يحفل بها المشهد العراقي العام. إنّها بعبارة أخرى تمثل الكائن المشلول الذي يتكوّر برمّته المنخورة على كرسيّ مصنوع من الرّيح. وعندما تتعرض المجتمعات إلى هجوم من الحروب، والكوارث، والهزّات التي ليست بالحسبان فإنّها ستصدّ تلك العواصف بدروعها المُعدّة إلى ساعة الصّفر. وتلك الدّروع ليست سوى فئات ومجموعات ضعيفة سيتم الدفع بها إلى خطوط المصدّ، وبذلك تزداد تلك الفئات تفتتاً على تفتت وستسهل عملية كنسها من المشهد كشوائب لا بد من إسقاط عملية التطهير القاسية على أحزمتها المفتوحة الصّدر للهواء المسموم، والرّزايا.
من مكونات الفئات الضعيفة أيضاً ارتفاع أعداد المرضى النفسيين حيث يتفاءل مستشفى الأمراض العقلية في بغداد بأن عدد الأسرّة فيه ارتفع إلى «1200» سرير، كما أنه يُنافح بأنْ تكون له القدرة على استقبال «الضاحكين الجدد !» الذين يقذف بهم الواقع العراقي المميت والذهاني إلى هذا المستشفى وعنابره المرحة وهناك سينجو من ينجو على طريقته الخاصة عندما يختفي وراء عقاقير مهدئة وينام بأمان بعيداً عن الشارع العراقي وإسفلته القاسي الذي تتلوى فوقه الجثث بلا حساب !
وإذا أردنا المزيد فهناك كيان واسع من الموظفين والأهالي يضمّهم عنوان «فئات التّضرّر» حيث تدير وضعهم دائرة تسمى «اللجنة المركزية لتعويض المتضررين» التي تأسست على وفق قانون رقم «10» لسلطة الائتلاف المؤقتة أيام الحاكم المدني الأميريكي «بول بريمر» ثم استأنفت نشأتها عام 2009 على وفق قانون رقم «20» تحت مسمى «اللجنة المركزية لتعويض المتضررين جرّاء العمليات الحربية والأخطاء العسكرية والعمليات الإرهابية». هذه اللجنة تقول إنها تنجز يومياً «120» معاملة لمُتضرّر فاقد أحد ذويه أو فاقد أحد أعضاء جسمه، أو ممتلكاته. حيث يتم العمل على تكييف وضعهم القانوني من أجل تسلم مبالغ تعويضية أو استحقاقات شهرية تؤمن لهم العيش بحدود الكفاف. يُضاف إلى ذلك فئة الفتيات المُشرّدات دون سن الـ «21» عاما وتورّم عدد الأيتام والراقدين في دور الإصلاح من الأحداث تخبرنا أرقامهم الآخذة بالتصاعد نتيجة غياب سياسات الاحتواء وإيقاف حالة التدهور أننا لا نتجول بين ظهراني شعب أو مجتمع متماسك بل متاهة من الشرائح مفتوحة للاستثمار من قبل الأزمات ومُعدّة للمحو.
وقد أصبح الأفراد السرابيّون لتلك الشرائح يقصرون أنفسهم على مواجهة المشكلات العصية التي يواجهونها مباشرة كل يوم، وغاب عنهم التصديق بحصاد ونتائج التخطيط البعيد المدى فهو في نظرهم حالة هلامية تأتي من قبيل الرفاهية.
باتجاه الحاضر !
أمام ذلك نجد أن مسار التنمية في العراق يمر بطرق ملتوية تترصده مخاطر سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة، فضلا عن أن البلاد لم تغادر وقوفها المزمن بسبب الوضع الأمني على «منصة الطوارئ» طوال الـ «11» عاماً الراهنة. كما إن غياب السياسة الاقتصادية الوطنية إلى جانب الهيكل المؤسسي والتشريعي الهرم يكون سبباً للثمن الباهظ الذي تدفعه يومياً تلك الشرائح الاجتماعية الرّابضة تحت أحزمة البؤس. إلى جانب ذلك وباعتبار «الديمقراطية الناشئة» في البلاد يخلو نسيجها من الأحزاب وتحل محله «المكونات» باتت قضية فتح تنوع بؤس تلك الشرائح على بعضها البعض أحد ألقاب مرحلة التمترس الراهنة؛ فصوت الأقليات يصعد إلى السطح محاولا تأسيس حضوره بصورة متعثرة ويخالط الأكثريات أو ينازعها، ويتم التعبير عن رزمة كل تلك الأصوات بروح مُتنشازة.
إن الصورة التي كانت متسارعة وهيروغليفية بعد 2003 التي أتت على نهاية نظام دمار شامل بسط شره المطلق على تفاصيل الحياة بدأت تداعياتها تتكشف من خلال بروز التصدع العميق في نسيج البنية الاجتماعية رافقه تدهور قيمي دفع الحشود الواسعة إلى الهرع والتشبث بالمناخات التقليدية الأمر الذي جعل زوابع القوى السياسية الجديدة وتوابعها تسبغ على تلك الحشود مباركتها وتنفق عليها دزينة الخيارات الضارّة.
وعلى مايبدو أن تلك الفئات التي حددها التعريف المذكور واخترقها الوضع العراقي بصورة انهياره وزاد عليها أصنافاً وشرائح لا تتسم بالضعف بل بالتحطّم الذي تتخبط في تأويل متنه المعرفة التفسيرية، والوصفية، والسردية التي نؤلفها نحن، مجتمعات المعاناة.
*كاتب عراقي