مقترح موازنة 2014 .. الإنفاق العام والقطاع الخاص في العراق

 د. علي مرزا*

النفقات والإيرادات والعجز

في مقترح موازنة 2014 الذي أُحيل إلى مجلس النواب بعد موافقة مجلس الوزراء في منتصف كانون ثان/يناير 2014 والتعديلات التي طرأت عليه فيما يخص تخصيصات البترودولار في أواخر كانون ثان، بلغت تخصيصات النفقات لسنة 2014 نحو 146 مليار دولار، منها 60 مليار دولار تخصيصات النفقات الاستثمارية (41%) و33 مليار دولار تعويضات الموظفين (23%)، التي لا تشمل الرواتب التقاعدية. وقُدِرت الإيرادات بنحو 120 مليار دولار منها 112 مليار دولار إيرادات نفطية (93%). بهذا يبلغ العجز المخطط بين النفقات والإيرادات نحو 26 مليار دولار (18% من تخصيصات النفقات).

وفي جانب الإيرادات النفطية أُفترض في حسابات الموازنة سعر تصدير 90 دولار للبرميل. ويقارن ذلك مع سعر فعلي قدره 102 دولار في 2013 و106 دولار في 2012. كما اُفترضت كمية تصدير 3.4 مليون برميل يومياً (م-ب-ي) منها 0.4 م-ب-ي من اقليم كردستان. واعتماداً على تطور طاقة التكرير المتاحة واستهلاك النفط في محطات الكهرباء خلال 2014، فإن كمية التصدير هذه تتوافق مع إنتاج 4.1-4.2 م-ب-ي. ويقارن ذلك مع إنتاج فعلي قدره 3.3 م-ب-ي (منها 0.3 م-ب-ي في كردستان) في 2013 و3.19 م-ب-ي (منها 0.25 م-ب-ي في كردستان) في 2012.

وفي ضوء تطورات السنتين 2012 و2013 يمكن القول أن الافتراض المستخدم لكمية التصدير (والإنتاج) لسنة 2014 يعد متفائلاً. لذلك فإن انخفاض هذه الكمية سيؤدي إلى تزايد العجز. على سبيل المثال، لو أن كمية التصدير التي ستتحقق ستكون 3.0 م-ب-ي بدلاً من 3.4 م-ب-ي فإن العجز سيرتفع من 26 مليار إلى أكثر من 39 مليار دولار. من ناحية أخرى، سينخفض العجز أو يختفي في حالة عدم صرف كامل التخصيصات الإنفاقية و/أو تحقق سعر تصدير للنفط أعلى من 90 دولار للبرميل. على سبيل المثال، يتبين من بيانات الصرف الفعلي لنفقات ميزانية 2011 (وهي أحدث سنة تتوفر عنها بيانات فعلية) أن معدل الصرف الفعلي كان 75% لتلك السنة. وتبين حساباتنا أنه لو تحقق إنفاق فعلي لسنة 2014 في حدود هذه النسبة وحتى 82% فستحقق الموازنة فائضاً (بدلاً من عجز 26 مليار دولار).

وعند ظهور العجز فإن تمويله سيكون من خلال عدة مصادر كفوائض الميزانية المتجمعة من السنوات السابقة (سواء كانت فوائض نقدية لتعاقدات سابقة لم تنفذ أو تلك المودعة بالعملة الاجنبية في صندوق تطوير العراق، DFI، أو الفوائض الأخرى المودعة في الجهاز المصرفي المحلي) وحوالات الخزينة (الاقتراض من الجهاز المصرفي وغير المصرفي) ومصادر أخرى. واعتماداً على مقدار العجز فإن استعمال فوائض الميزانية المتجمعة سيقيده حد أدنى حرج لرصيدها.

التخصيصات الاستثمارية

يساعد وجود منظور تخطيطي متوسط/ بعيد المدى موحد للمشاريع الاستثمارية للقطاع العام، على تحديد التخصيصات الاستثمارية في الموازنة العامة السنوية بشكل متسق ومترابط. ولكن لا يتواجد مثل هذا المنظور للمشاريع العامة في العراق. فلم يرد في خطتي التنمية الوطنية 2010-2014 و2013-2017 جداول بمشاريع عامة محددة وتكاليفها حسب التقسيمات الإدارية والأنشطة الاقتصادية للسنوات الخمس فيها. كما لا تتوفر، حسب علمنا، موازنة عامة متوسطة المدى يمكن ان تكون عوناً في هذا المجال. لذلك فإن الموازنات السنوية تعد في ضوء اقتراحات الوزارات والإدارات المختلفة، بدون منظور موحد مسبق. وليس لدينا ما يبين أن ما يخصص مقابل هذه الاقتراحات قائم على دراسات الجدوى الاقتصادية والاجتماعية. وفي أغلب الظن يؤثر في قرار التخصيص ما سيتوقع توفره من موارد للميزانية، من ناحية، والحاجات ذات الاسبقيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اضافة للقوة التفاوضية للوزير أو رئيس الإدارة، من ناحية أخرى. وبينما تتوفر تقديرات متوسطة/ بعيدة المدى متاحة، في المجال العام، عن مشاريع بعض الوزارات أو القطاعات فإن وزارات وقطاعات أخرى لم تنشر، أو تتاح في المجال العام، تقديراتها الاستثمارية المستقبلية والمشاريع التي تكونها.

على سبيل المثال، في قطاع الطاقة تتوفر تقديرات ظهرت في الاستراتيجية الوطنية المتكاملة للطاقة (الاستراتيجية) تمتد إلى سنة 2030، والتي قدرت الحاجة الاستثمارية لقطاع الطاقة (نفط خام وغاز وتكرير وكهرباء، الخ) بنحو 543 مليار دولار (بأسعار 2011). إن هذا الرقم (الذي هو أقرب شيء متاح لتقدير رسمي) يعادل 635 ترليون دينار (بسعر صرف 2011) والذي يترجم إلى نحو 35 ترليون دينار سنوياً خلال 2013-2030 (بأسعار 2011). وفي ضوء حقيقة أن معظم العقود النفطية/ الغازية هي عقود مقاولة خدمة كما ان معظم استثمارات التكرير والكهرباء ومشاريع الطاقة الأخرى سيمولها القطاع العام فأن معظم استثمارات الطاقة تتحملها الموازنة العامة. فإن تخصيصات 2013 و2014 للنفط والكهرباء، بالرغم من ارتفاعها، لازالت أقل من المستوى السنوي الذي تتضمنه الاستراتيجية (خاصة وأنها ستنخفض حين تقاس بأسعار 2011).

ومن المناسب الاشارة إلى أن كفاءة الأداء قد يصعب قياسها حينما تجزأ حسابات بعض الوحدات الإنتاجية العامة بحيث ترد نفقاتها الاستثمارية، وربما بعض نفقاتها التشغيلية، في الموازنة العامة والنفقات والإيرادات الأخرى في موازنات مستقلة لهذه الوحدات. ففي هذه الحالة لا يمكن الربط بين التكاليف والعوائد بشكل واضح. ويتبين هذا الأمر بشكل بارز في قطاع الكهرباء الذي يعاني من ارتفاع التكاليف وانخفاض العوائد. إن وجود ميزانية مستقلة مالياً تجمع جميع النفقات والعوائد يساعد على بيان مقدار الربح أو الخسارة التي تترتب على استثمارات وعمليات توليد ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية ومقدار الإعانة التي تقدم للمستهلك. وربما ينصرف ذات الأمر للقطاع النفطي. فلابد من التفكير في تنظيم عملياته المالية في ميزانية مستقلة تعود لمؤسسة عامة مستقلة مالياً كشركة نفط وطنية، على سبيل المثال. ولكن، في المقابل، فإن الاهمية الكبيرة لعوائد النفط وصعوبة فصل تخصيص عوائده عن القرار السياسي، من ناحية، وضرورة الشفافية في بيان عوائده مع النفقات المترتبة عليه، من ناحية أخرى، قد تبرر استمرار أيراد استثماراته في الموازنة العامة. إن تحقيق تسوية بين الكفاءة والشفافية/ المتطلبات السياسية يمثل معضلة ينبغي دراستها وإيجاد الحلول الناجعة لها.

وعند مقارنتها بموازنة 2013 يلاحظ ارتفاع تخصيصات النفقات الكلية (تشغيلية واستثمارية) في مقترح موازنة 2014 (بما فيها تعديلات أواخر كانون ثان) بنحو 23.8 ترليون دينار. وفيما عدا الزيادة في تخصيصات البترودولار فإن أغلب المتبقي هو زيادة في تخصيصات النفقات التشغيلية،. ومن ضمن التخصيصات الاستثمارية، وفيما عدا النفط والبترودولار، انخفضت التخصيصات لأغلب الوزارات الأخرى عن موازنة 2013. من ناحية أخرى، تبين مؤشرات الصرف الفعلي (لسنة 2011) أن نسبة الصرف الفعلي على المشاريع الاستثمارية بلغت 46% من التخصيصات الاستثمارية المنقحة مقارنة مع نسبة صرف 92% من تخصيصات النفقات التشغيلية المنقحة (معدل 75% لتخصيصات النفقات الكلية في الميزانية).

إن انخفاض نسبة الصرف يمثل عقبة رئيسة في زيادة نصيب الاستثمار في الناتج المحلي الإجمالي. على سبيل المثال، بلغت نسبة تخصيصات الاستثمارات في موازنة 2011 نحو 37% من مجموع تخصيصات النفقات في حين بلغت نسبة المصروف الفعلي على الاستثمارات إلى المصروف على النفقات 23%. وتقابل النسبة الأخيرة حصة استثمار في الناتج المحلي الإجمالي في حدود 18% في 2011. لذلك فإن العمل على زيادة نسبة الصرف (التنفيذ) سيقود إلى ارتفاع نسبة الاستثمار في الموازنة ومن ثم في الناتج المحلي الإجمالي.

نمط الاستعمال 2007-2014 

ورد في مقالين لي، بالعربية والإنجليزية نشرا، بالتتابع في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين (23/5/2013) وفي مجلة ميس MEES (12/8/2013)، بأن مؤشرات خطة التنمية الوطنية 2013-2017 ينتج عنها فعلياً تركيز لنمط الاستعمال في العراق والمتمثل في استمرار قطاع “الحكومة العامة” كأهم مستخدم في الاقتصاد والمصدر المعول عليه لاستيعاب جزء أساس لا يقل عن نصف الداخلين في سوق العمل سنوياً. وتبين أيضاً أن هذه المؤشرات لا تتفق مع هدف التنويع الاقتصادي الوارد في الخطة.

وعند مقارنة عدد العاملين في الوزارات والدوائر الممولة مركزياً الوارد في مقترح موازنة 2014 بالأعداد الواردة في الموازنات المقرة للسنوات السابقة لسنة 2013، يلاحظ استمرار الأهمية الكبيرة للاستعمال الحكومي. هذا بالرغم من التباطؤ الملحوظ في الزيادة السنوية لعدد مستخدمي الدولة في موازنة 2014 (96 ألف) مقارنة مع الزيادة السنوية في موازنة 2013 (158 ألف).

السياسة الصناعية ونمط الاستعمال

إن تمويل الميزانيات العامة المتعاقبة، ومنها الموازنة المقترحة لسنة 2014، لزيادة الاستعمال الحكومي يعد اجراء متاح وفعال لاستيعاب جزء مهم من الاعداد المتزايدة الداخلة لسوق العمل. فإن متوسط عدد الداخلين في سوق العمل (عرض العمل) بلغ 252 ألف شخص سنوياً خلال الفترة 2007-2012 ليزداد إلى 332 ألف سنوياً خلال الفترة 2012-2014. وسيرتفع العدد تدريجياً خلال العقد القادم. ومن الصعوبة التوقع من متخذي القرار الاقتصادي في الدولة بعدم التوسع في الاستعمال الحكومي في ظل عدم قابلية النشاطات الأخرى في استيعاب كامل الداخلين لسوق العمل. إن أي حكومة مهما كان توجهها سترى نفسها، في مثل هذه الظروف، مضطرة لتوسيع الاستعمال الحكومي.

غير أن استمرار هذا النهج، بالرغم من الأهداف المعلنة للتنويع الاقتصادي، يعني تركيز احادية الاقتصاد واستحكام حلقات الفخ الريعي. لذلك فإن التوصية المناسبة، في هذا المجال، هي في ضرورة تبني سياسة صناعية فعالة تهدف لتنمية القطاعات الأخرى، خاصة ذات القابلية التصديرية، بغية استيعاب اعداد متزايدة من الداخلين لسوق العمل تدريجياً بحيث تقل الأهمية النسبية للاستعمال الحكومي بمرور الوقت ويتغير نمط الاستعمال الحالي.

وتعني السياسة الصناعية، عموماً، حزمة السياسات التي تهدف إلى تطوير وإنعاش بناء مجموعة من النشاطات الاقتصادية وتطوير مجموعة من التغييرات الهيكلية. على هذا فهي ليست محددة بالصناعة فقط وإنما تشمل قطاعات إنتاجية وخدمية أخرى. ومن الناحية النظرية يتم تبني سياسات صناعية تدخلية من قبل الدولة بسبب أن عملية التنمية ليست تلقائية. وعدم التلقائية هذا يثار نتيجة نواقص نظام السوق التي تؤثر سلباً في الكفاءة الاقتصادية/ الاجتماعية. وهذه النواقص تتطلب تدخل الدولة لتصحيحها بما يؤدي لرفع مستوى الكفاءة ومن ثم ترقية العملية التنموية. ولكن من الناحية العملية تواجه السياسة الصناعية عادة بمسائل تتعلق بمشكلتين. أولاً غياب المعلومات لدى الإدارة الاقتصادية في الدولة عن المجالات المناسبة في الاستثمارات المرغوبة ومن يقوم بها. وثانياً مشكلة الفسـاد وضعف البنيـة الإداريـة/ البيروقراطية والقابليـة الفنية في رسم ومتابعة السياسات. 

وهذه المشاكل العملية، اضافة للنزاع والاستقطاب السياسي، ربما تعد من أهم المسببات لتواضع أداء ونتائج السياسات الاقتصادية عموماً في العراق. هذا إضافة لغياب سياسة صناعية واضحة على المستوى المؤسسي ومستوى الإدارة الاقتصادية. وفيما يتعلق بالمستقبل القريب/ المتوسط لا يوجد في خطة التنمية الوطنية 2013-2017 كلاً متماسكاً لسياسة صناعية فعالة. فلقد تشعب العرض فيها إلى اجراءات وسياسات وأهداف غير مرتبطة ببرنامج واضح، كقوانين تشجيع القطاع الخاص في أنشاء المشاريع والمشاركة في النشاط الاقتصادي وإقامة مدن صناعية (ص 13، 51) وتنمية القدرة التنافسية (ص 24)، وضرورة التخلص من احادية الاقتصاد (ص 26، 27)، وضرورة تخفيض دور القطاع العام في الاستعمال (ص36، 38، 53)، وخصخصة المنشآت العامة (ص 50)، الخ. كما أن ما ورد حول القطاع الصناعي تحت عنوان (وسائل تحقيق الاهداف، ص82)، كان يمكن أن يكون نواة لسياسة صناعية لو انه وضع بشكل منظم وتفصيلي متسق وضمن رؤيا مؤسسية واضحة وقائمة بالمشاريع المنوي اسنادها. وبالإشارة لما ورد في ما هو متاح من الاستراتيجية الوطنية المتكاملة للطاقة، فهي تحوي عناصر مناسبة لسياسة صناعية ولكنها غير كافية. فلقد اشتملت الاستراتيجية على عرض تفصيلي لقائمة بمشاريع صناعية ينبغي تشجيعها وإسنادها كما شملت اقتراحات بتغييرات مؤسسية تنطوي على لجان وزارية للمتابعة والإصلاح (task forces) ولجنة متابعة “الصناعات المتصلة linked industries” وإقامة سلطة للمناطق الصناعية وشركة عامة صناعية قابضة، الخ. وبالنتيجة يمكن القول أن ما ورد في خطة التنمية الوطنية 2013-2017 والاستراتيجية الوطنية للطاقة لا يرقى إلى سياسة صناعية عامة متماسكة ولكن ما ورد فيهما يمكن أن يكون أساساً لسياسة صناعية فيما لو جمعه إطار شامل بالمفهوم المُعَّرَف في أعلاه للسياسة الصناعية.

دور القطاع الخاص 

تدل المؤشرات المتاحة بأن القطاع الخاص يحتل موقعاً مهماً في الاقتصاد العراقي في الوقت الحاضر ويمكن تطويره بما يؤهله للعب دور أكبر في الإنتاج والاستثمار وإتاحة فرص العمل مستقبلاً. إذ تبين تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء للناتج المحلي الإجمالي في الفترات التي تتوفر عنها تقديرات مناسبة (2009-2012) أن القطاع الخاص ساهم بنحو 60% من الناتج غير النفطي والذي يلاحظ منه أيضاً أن هذا القطاع يهيمن على الزراعة وباقي التعدين والبناء والتشييد ونشاطات التوزيع والتجارة والنقل وملكية دور السكن ويشارك بنسبة مهمة في ناتج الصناعة التحويلية ولكن مشاركته النسبية منخفضة في نشاطي المصارف/ التمويل والكهرباء.

ومع أهميته الملموسة في الناتج غير النفطي فإن دوره في توليد فرص العمل وفي الاستثمار اتسم بالتواضع. فما يمكن استقراؤه من فقرة ثالثاً أعلاه هو أن القطاع الخاص لم يستطع في جانب توليد فرص العمل مضاهاة قطاع الحكومة العامة والذي بلغت القيمة المضافة فيه أقل من نصف القيمة المضافة للقطاع الخاص خلال السنوات 2009-2012. ولا شك أن الدولة في قرار الاستعمال الحكومي لا تلتزم باعتبارات الانتاجية وإنما باعتبارات توفر العوائد النفطية والضغط الشعبي في حين أن قرار الاستعمال في القطاع الخاص يخضع لاعتبارات الربحية. ولكن مع ذلك فإن جانب مهم من التأخر النسبي لدور القطاع الخاص في توليد فرص العمل يعود لتواضع نموه وتطوره خلال العشرة سنوات الماضية (وربما العقود الماضية) وتواضع الاستثمار فيه.

ففي جانب الاستثمار لم تتعدى مساهمة القطاع الخاص 8% من الاستثمار غير النفطي خلال الفترة 2009-2011، وبالرغم من القطاع العام قام تقريباً بجميع الاستثمارات في النشاطات المتاجر بها (الصناعة والزراعة) فأنه في الحقيقة لم ينافس القطاع الخاص جدياً في هذه النشاطات. ويعود ذلك إلى أن الاستثمار الذي نفذه كان منخفضاً في هذين النشاطين خلال هذه الفترة (أقل من 5% من الاستثمار غير النفطي). على سبيل المثال، فإن ما استثمره القطاع العام في الصناعة لا يتخطى تكرير النفط ونشاطات تكميلية لاستثمارت سابقة. لقد كانت استثمارات القطاع العام أكثر تركيزاً على الطاقة والبنى الأساسية والاجتماعية. في هذا الوقت، فلقد أنحصر النشاط الاستثماري للقطاع الخاص، اساساً، في الأبنية السكنية، ثم بفارق كبير في النقل/التجارة/التمويل ونشاطات صغيرة أخرى.

وهناك رأي يرى أن السياسة النقدية (سعر الفائدة) لم تحفز الجهاز المصرفي لإشباع كامل الائتمان المطلوب من قبل القطاع الخاص. ويتبع ذلك أنه بالتوافق مع سياسة مالية تتيح التمويل المجاني للاستثمارات العامة الواردة في الميزانية العامة وتلجأ للاقتراض لسد العجز، فإن كلا السياستين ساهم بإزاحة،crowded out ، جزء من استثمار القطاع الخاص. وكان يمكن أن يكون هذا الاستثمار أكبر لولا هذه الإزاحة. وينصرف هذا الرأي إلى أن السياسة النقدية، وحتى السياسة المالية، حَفَّزت المصارف على تفضيل استعمال أموالها (بالذات الودائع لديها) وذلك بإيداع جزء كبير منها لدى البنك المركزي بأكثر بكثير من متطلبات الاحتياطي القانوني. وربما أيضاً في شراء حوالات البنك المركزي وحوالات خزينة وزارة المالية. وقد قاد ذلك، حسب هذا الرأي، إلى تقليل الائتمان المتاح، من هذه المصارف، إلى القطاع الخاص. إن اثبات حدوث “الإزاحة” وتقدير حجمها يحتاج إلى تحليل إحصائي واستطلاع أيكنومتري. وفي اعتقادي فإنها حتى إن حدثت فهي محدودة الحجم والتأثير. ذلك أن تردد المصارف لإقراض النشاط الخاص يرجع إلى عوامل تتخطى أثر السياستين النقدية والمالية لتمتد إلى الحالة الأمنية وقوانين الملكية والتشريعات وعلاقتها بكفاية وفعالية الضمانات collaterals التي تطلبها المصارف. من ناحية أخرى، في اقتصاد يغلب عليه التعامل بالنقود واللجوء إلى المصادر غير المصرفية في التمويل فإن السياسة النقدية (بالذات سعر الفائدة) تكون عادة محدودة التأثير على القرارات الاستثمارية في القطاع الخاص.

لقد انطوت مختلف الوثائق الرسمية (على سبيل المثال، خطة التنمية الوطنية 2013-2017، الاستراتيجية الوطنية المتكاملة للطاقة، خطة التنمية الوطنية 2010- 2014، استراتيجية التنمية الوطنية 2005-2007، الخ) وتصريحات المسؤولين الحكوميين على توصيات بضرورة تشجيع القطاع الخاص كأحد أهم الاستراتيجيات والوسائل والسياسات والإجراءات اللازمة لتنمية القطاعات البديلة للنفط والاستعمال الحكومي بغية التخلص مــن احادية الاقتصاد وايجاد مصادر مستديمــة للاستعمال.

غيـر أن تجربــة السنــوات المنصرمة بينت أن الدعوة لزيــاد دور القطـاع الخاص بالشكل (التلقائي) الوارد في معظم هذه الوثائــق والتصريحــات لا يكون لها تأثير ملموس بـدون سياسة صناعيـة ودور فعـال لإدارة اقتصادية مقتدرة وشفافة في تنسيق السياسات والإجراءات وإقامة البنى المؤسسيـة المحابيـة للنمو واستعمـال نظـام السوق والأسعـار وتشخيص مجالات النمو وتشجيع وإعانة القطــاع الخـاص للقيـام بهـا.

البترودولار وصلاحيات

وموارد المحافظات

ورد في التعديل الثاني لقانون المحافظات رقم (21) لسنة 2008، الذي صدر في 8 آب/ أغسطس 2013، مجموعة من التعديلات التي يمكن أن تزيد من استقلالية المحافظات، عن السلطة المركزية، فيما يخص صلاحياتها ومواردها المالية. ففي جانب الصلاحيات ورد في سادساً من المادة (2) ما يلي: “تدار الاختصاصات المشتركة المنصوص عليها في المواد (112 و113 و114) من الدستور بالتنسيق والتعاون بين الحكومة الاتحادية والحكومة المحلية وتكون الأولوية فيها لقوانين المحافظات غير المنتظمة في اقليم في حالة الخلاف بينهما وفقاً لأحكام المادة 115 من الدستور“. وفي جانب الموارد المالية، إضافة لحصتها من الميزانية الاتحادية، فإن المحافظات التي يُنْتَج أو يُكَرر فيها النفط/ الغاز تتمتع بإيراد إضافي حددته الفقرة 8 من ثانياً من المادة (44) كما يلي: “خمسة دولارات عن كل برميل نفط خام منتج في المحافظة وخمسة دولارات عن كل برميل نفط خام مكرر في المحافظة وخمسة دولارات عن كل 150 متر مكعب غاز طبيعي منتج في المحافظة”.

ويثير قانون المحافظات المعدل هذا مجموعة من القضايا الأساسية في الهيكل السياسي/ الاقتصادي/ الإداري في العراق إضافة لقضايا فنية تفصيلية، إذ أن من المرجح أن يقود تطبيق القانون إلى وضعٍ مماثلٍ للعلاقة القائمة حالياً بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان. وحيث ان المادة 112 من الدستور متعلقة بالموارد الطبيعية ومنها النفط، وفي ضوء ما اتبعته كردستان من سياسة نفطية مستقلة، فإن هذا التعديل يتيح للمحافظات مساراً مماثلاً. إن حقيقة أن النظام السياسي (والجماعات السياسية فيه) لم يستطع الوصول إلى آلية مناسبة لحل الإشكالات والخلافات بين المركز والإقليم ومن ثم التنسيق بينهما للوصول إلى سياسات واستراتيجيات تنموية بناءة ومتسقة (خاصة في مجال الطاقة) فإن توسيع هذا الخلاف ليشمل المحافظات الأخرى سيقود إلى أزمات مستمرة بين الإدارات المحلية والمركز وقد يعرقل عملية التخطيط التنموي. من ناحية أخرى، من غير الواضح فيما إذا كانت القابليات المهنية والإدارية والتنفيذية في المحافظات قادرة على استعمال صلاحيتها واستغلال مواردها المالية بشكل كفوء وشفاف في مسار طال انتظاره في تمكين الإدارات المحلية من تطوير وبناء محافظاتها المهملة منذ عقود طويلة.

أما من الناحية الفنية التفصيلية فيمكن الإشارة للقضايا التالية. إن تحديد أساس البترودولار برقم مطلق (عدد-دولارات/برميل) قد ينتج عنه مستقبلاً تحميل الميزانية العامة عبئاً ثقيلاً في حالة انخفاض أسعار النفط. وكان من الافضل تحديده بنسبة من السعر الصافي (أي السعر ناقصاً تكاليف استخراج ونقل برميل من النفط الخام إلى منطقة الاستعمال أو التصدير) بحيث يكون العبء متناسباً عند انخفاض أو ارتفاع الاسعار. على سبيل المثال، 5% من السعر الصافي. ويكون من الأفضل مزج الأساسين من خلال النص على نسبة من السعر الصافي أو عدد-دولارات/برميل أيهما أقل. من ناحية أخرى، فإن احتساب بترودولار على الغاز الطبيعي المصاحب المنتج يعني منح المحافظة المنتجة عائداً إضافياَ يقترب من الازدواج مع منحها بترودولار النفط الخام. هذا إضافة إلى أن معظم الغاز المصاحب يحرق في الوقت الحاضر. ويكون من المناسب، في مجال الغـاز، قصر البترودولار على الغاز غير المصاحب.

وفي مقترح موازنة 2014، في منتصف كانون ثان، بدلاً من استعمال خمسة دولارات للبرميل/150م3-غاز، كما ينص عليه قانون المحافظات المعدل، اُستخدم في تخصيص البترودولار أساس دولار واحد للبرميل/150م3-غاز. وبهذا خصص للبترودولار في مقترح الموازنة نحو 1.5 مليار دولار. ولكن بعد تعديل أواخر كانون ثان/ يناير (كما ورد في وسائل الإعلام) احتسب البترودولار على أساس 5 دولار للبرميل/150م3-غاز وبذلك بلغت تخصيصات البترودولار المعدلة نحو 7.5 مليار دولار. وتقود هذه الزيادة في التخصيصات إلى زيادة عجز الموازنة المخطط من 20 مليار دولار، في مقترح منتصف كانون ثان، إلى 26 مليار دولار (أي من 23.3 ترليون إلى 30.3 ترليون دينار).

نتيجة

مما تقدم يتبين أن أحدى المعضلات الأساسية للسياسة الاقتصادية في العراق في الوقت الحاضر تتمثل في ضعف قدرات وأداء الإدارة العامة والاقتصادية في ذات الوقت الذي يتطلب فيه تحقيق تطور مستديم للقطاع الخاص وتحقيق مناخ استثماري جذاب دور فعال إيجابي للإدارة الاقتصادية العامة. ولعل إعداد الموازنات العامة وتنفيذها يقدم مثالاً في تواضع التنسيق مع القطاع الخاص وتواضع أثرها في حفزه على الاستثمار والتوسع. فبالرغم من أن الاستثمارات في الموازنات العامة ركزت على مشاريع البنية الاساسية والاجتماعية والطاقة بعيداً عن المجالات التي يفترض أن يلجها القطاع الخاص، وربما قد تسهل عمله، غير أن هناك رأي يرى أن القطاع العام ربما أزاح القطاع الخاص من جزء من المجال الاستثماري. وسواء صح هذه الرأي أم لا فأنه يشير إلى وجود مشكلة في توفر التمويل منخفض الكلفة للقطاع الخاص وبالذات الوحدات الصغيرة فيه. ولعل للبطء في إعادة هيكلة الجهاز المصرفي أثر في ذلك. هذا إضافة إلى العراقيل والمشاكل التي تواجهه في تعامله مع دوائر الدولة والمشاكل الأمنية الأخرى المساهمة في عرقلة نشاطه، أما كيف يمكن الوصول “لدور فعال إيجابي لإدارة اقتصادية مقتدرة وشفافة” فهناك تجارب مرت بها وسياسات وإجراءات اتخذها ويتخذها العديد من الدول وخاصة الدول الآسيوية وقبلها، وبالتوازي معها، الدول المتقدمة وطبقتها بنجاح واضح في تطوير الإدارة الاقتصادية وزيادة فعاليتها. ويبرز في هذا المجال الدور الإيجابي لإعداد خطط وميزانيات عامة متسقة، سنوية ومتوسطة المدى. وهذه الدول تنطوي على أنظمة سياسية واجتماعية وثقافية وأثنية متباينة. ولقد بيَّن العديد من التقارير الدولية المعدة حول العراق عناصر عديدة من هذه التجارب والخطوات اللازمة لتطوير هيكلية وعمل وأداء الإدارة العامة والاقتصادية بما فيها كيفية شمول سياسة الدولة الاقتصادية في الموازنات العامة السنوية ومتوسطة المدى. كما احتوت هذه التقارير على عناصر إصلاح وإعادة هيكلة الجهاز المصرفي.

أما كيف يمكن تأمين تطبيق الخطوات والنتائج والبرامج والسياسات المستلة من هذه التجارب الدولية بفعالية في العراق فهذا يتخطى قابلية التحليل الاقتصادي ليمتد إلى حصيلة تفاعل النظام السياسي والجماعات والبنى السياسية والمجتمعية القائمة في العراق والتي لا تبدو بأحسن أحوالها في الوقت الحاضر!.

* باحث وكاتب اقتصادي

عن موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة