حاورها : كه يلان محمد
المساحة المحدودة للقصة تتطلبُ دراية باللغة وتمكناً في بناء الجملة الرشيقة المخففة من الحشو. كما أنَّ الإسهاب في السرد لا يفيدُ الحركة الدرامية في أجواء القصة، باعتبار أنّ القارئ يتطلّع إلى معرفة الوحدة الأساسية في صياغة المادة القصصية، ولا يشدّهُ إلى متابعة حلقاتها سوى قدرة المبدع على كسر الجليد بين المتلقي ونواة القصة بعيداً من التطويل والإطناب في الوصف.
وفي هذا السياق، تمكنت الكاتبة والقاصة التونسية أسمهان الشعبوني من تغطية المواضيع المتعددة في مجموعتها القصصية الأولى «الجانب الآخر من الطريق»، بدءاً من الهواجس الذاتية مروراً بالأزمات المجتمعية والحضارية وصولاً إلى آلية التواصل بين الأديان.
واللافتُ في أسلوبها هو التنوع بين الواقعية والعجائبية والاستشراف العلمي، ولا تخلو نصوص الشعبوني من أنفاس ساخرة حول تجربتها في كتابة القصة واختيارها لهذا الجنس الإبداعي وقراءاتها المتشعبة. وهنا حوارُنا مع أسمهان الشعبوني عن تجربتها الإبداعية ومجموعتها القصصية «الجانب الآخر من الطريق»…
- بخلاف الاتجاه السائد في الوسط الأدبي، اخترتِ الدخول إلى عالم الأدب من خلال القصة، وليس الرواية كما هو سائد. لماذا؟ وهل فنّ القصة هو الأكثر تعبيراً عن رؤيتك؟
قبل أن أشرع في كتابة مجموعتي القصصيّة، كنت قد نشرت بعض القصص في مجلّات وصحف ومواقع الكترونيّة. تلك القصص كانت ثمرة مشاركتي في ورشات أدبيّة، من بينها ورشة الكاتب التونسيّ كمال الرياحيّ، وورشة كاتب القصّة التونسيّ، وليد سليمان. ولعلّ القصّة هو الجنس الأدبي الأكثر انسجاماً مع طبيعة «ورش الكتابة»، لأنّ اختصار النصّ يوفّر فرصة العمل على وحدة في المعنى والشكل، بطريقة شاملة.
لذلك عندما قرّرت أن أكتب، كنت قد قرأت وتمرّنت كثيراً على كتابة القصّة. قرأت وأعدت قراءة العديد من المجموعات القصصيّة لنجيب محفوظ وقصص يوسف ادريس، ويوسف السباعي وزكريّا تامر وغيرهم.
قرأت كثيراً من قصص الأدب اللاتينيّ لأدباء مثل بورخيس وكورتثار. ولا أخفي تأثري بكورتثار، وقد ألهمتني قصّته «الآنسة كورا» كتابة «حصّة الكتابة الصباحيّة»، من حيث أسلوب التنقّل بين أصوات الشخصيات، من دون سابق إنذار.
قرأت أيضاً لميّاس، ولبولانيو (الذّي أفضّله كشاعر في الحقيقة). قرأت في أدب القصّة القصيرة الفرنسيّة لكتاب كلاسيكيين مثل موباسان وآخرين معاصرين مثل فراد كسّاك، الذي أعجبت بفكاهته كما أعجبت أيضاً بفكاهة الإيطاليّ دينو بوزاتي. تأثّرت أيضاً بالقصّة الأنكلوفونيّة بعدما وجدت فيها خيالاً علميّاً ممزوجاً بالميتافيزيقا، وأظنّه استجاب إلى نزعة كانت موجودة في داخلي وتنتظر أن يخرجها شيء ما من سباتها.
هذا بالإضافة إلى قصص فيليب ك. ديك، وريموند كارفر، وغيرهما… هكذا وجدت نفسي، بمحض الصدفة، في عالم القصّة. ومع أنني نويت في البداية أن أكتب الرواية، ولكن عملتُ بنصيحة راي برادبوري الشهيرة، وفضّلت أن تكون بداياتي بالتمرّن على كتابة قصص عديدة تمنحني فرصة التحسّن والتطوّر من نصّ إلى آخر، على أن أراهن على نصّ طويل.
- يتراوح أسلوبك الأدبي في «الجانب الآخر من الطريق» بين الواقعية والعجائبية والخيال العلمي، مع أجواء رمزية تنعكس في قصص معينة مثل «أهل الصمت». ماذا أضاف إلى تجربتك اختبارُ التنوع في الإبداع القصصي؟
في إحدى المرات، قال لي أحد النقاد التونسيين مرّة إنّ هذا التنوّع في الكتابة القصصيّة يدلّ على أنّني كاتبة مبتدئة في طور اكتشاف نفسها، وأنّني قد أختار نوعاً إبداعيّاً معيّناً في المستقبل. قد يكون رأيه صحيحاً، ولا أدري ما قد يخبّئه المستقبل، لكنّني أعرف أنّني لم أختر هذا التنوّع عن قصد. كلّ ما سعيت إليه عند كتابة القصص هو أن تنبع القصّة من أعماقي، وأن يكون لها صدى بداخلي.
هكذا كتبتُ قصصاً تراءت لي مشاهدها أو سمعت أصوات شخصيّاتها في خيالي. ربّما يعبّر هذا التنوّع في الكتابة القصصيّة عن التنوّع الذي تتّسم به شخصيّتي، رغماً عنّي في بعض الأحيان. فأنا بدأت حياتي في المحاماة، لكنّني كنت مغرمة دوماً بالكتابة والرّقص، ثمّ وجدت نفسي منجذبة إلى التّمثيل. قراءاتي متنوّعة جدّاً ولديّ فضول كبير بصفة عامّة. - في قصة «فرصة ضائعة»، نقرأ أفكار رواية «موسم هجرة الى الشمال» و»عصفور من الشرق» من حيث تشابه المصائر والخيبة من الغرب، لكنّ هذه الأسئلة لم يتمّ تناولها من منظور «المرأة» في قصصك، علماً أنّها كانت ستمنح المقاربة بُعداً جديداً، ربما. لماذا؟
لقد أعدت قراءة «موسم الهجرة إلى الشمال» في الأعوام الأخيرة، وإنما قبل كتابة المجموعة بفترة زمنيّة، كما أنّني تعرّفت إلى بعض القصص القصيرة الرّائعة للكاتب الطيب صالح، وهي تدور أيضاً حول ثيمات «موسم الهجرة إلى الشّمال»، ومسيرة الرّجل الشرقيّ المهاجر في الغرب.
لقد درست في سن الثامنة عشرة في المدارس التحضيريّة الأدبيّة في باريس ثمّ عدت الى تونس لأسافر مجدداً الى باريس كي أكمل دراستي في الحقوق وأستقرّ وأعمل فترة طويلة قبل العودة إلى تونس منذ سنتين. لذلك فإنّني عايشت شخصيّاً ومن خلال صداقاتي، الكثير من تجارب الطلاب المهاجرين في المدارس التحضيريّة للمهندسين وغيرها من الجامعات في فرنسا، وأنا أدرك مدى الضغط الذي يمارسه حبّ التميّز والتفوّق العلميّ والأكاديميّ عليهم. فهم يجدون أنفسهم مجبرين على النّجاح، وهذا هو عادة ما ينتظره الجميع من أيّ مهاجر في العالم، سواء في المجتمع الذي يهجره أو في المجتمع الذي يهاجر إليه. إنّه مطالب بالنّجاح بحسب المقاييس الاجتماعيّة المتداولة. وأفق الانتظار هذا، قد يُكيّفُ شخصيّة المهاجر وحياته، فلا يرى سوى ما يسمح له بتحقيق آمال الجميع، وربّما يغفل عمّا تتوق إليه روحه. وقد يكون الضغط أكبر لدى المهاجر الرّجل منه لدى المهاجرة المرأة، لأنّ الرّجل تقليديّاً هو من يقوم بوظيفة العائل. ربّما هذا ما يفسّر أنّ الشخصيّة الرئيسيّة في قصّة «فرصة ضائعة» رجل، رغم أنني كتبت هذه القصّة بعدما ألهمني أحدهم شخصيّة «نجيب» - التشخيصُ ملمح بارز في قصصك بحيث تكتسبُ السكاكينُ والأوراقُ صفاتٍ إنسانية. هل إسناد البطولة إلى الأشياء بدلاً من الكائنات الحية كان نتيجة التأثر بدعاة الرواية الجديدة في فرنسا؟
يجب أن أعترف بأنّني لست ممّن يستسيغون الرواية الجديدة في فرنسا. لا أحبّذ غياب الحبكة تماماً من الرواية، وغالباً ما أميل الى القصص، بمعناها الحكائي. لذلك فإنّ التشخيص هنا إنّما هو من رواسب اهتمامي بالعجائبيّ والفانتازي.
وأعتبر أنّ دخولي إلى عالم الأدب كان في الأساس من خلال رائعة الكاتب الانكليزيّ، لويس كارول، «أليس في بلاد العجائب» والتي أشير إلى تتمّتها «عبر المرآة، وما وجدته أليس هناك» بطريقة غير مباشرة في قصّتي «هديّة بالمقلوب». لقد قرأت الكثير من الواقعيّة السحريّة في أدب أميركا اللاتينيّة ثمّ إنّ ثقافتي التونسيّة هي ثقافة تهتمّ في الأصل بالخرافات وبعالم السّحر والعجيب الذي نجده في الحكايات وفي المعتقدات والموروث الشعبيّ. - تنفتح القصة، التي أهدت عنوانها الى الكتاب، على ثيمات عدة منها الفقد والاختلاف الديني والرحلة. لكنّ الأهم هو التقاطع المقلوب بين حياة سنية وتجربة المرأة الهندية. هل اردت بما قدمت الإشارة إلى وحدة المصير الإنساني؟
قصّة «الجانب الآخر من الطريق» هي فعلاً قصّة وحدة المصير الإنسانيّ، باعتبارها تؤكّد وحدانيّة الذات الإلهيّة وأن ّ الإنسان، هو واحد رغم اختلاف الانتماءات الدينيّة، والبشر على اختلافهم يعيشون فوق كوكب واحد، يرتبط مصيرهم ببعضهم بعضاً. التقاطع المقلوب بين حياة سنية وتجربة المرأة الهندية، هو تقاطع يبحث في مفهوم الزّمن ويحثّ على التّساؤل عن وجود الزّمن بالفعل. هذا المفهوم الذي يحدّنا – كما يحدّنا مفهوم الهويّة، أو كما يحدّنا مفهوم المكان – إن كان لا وجود له حقيقة إلّا في عقولنا، فهذا يعني أنّنا نختار أن نحدّ أنفسنا بأوهام. سؤال الزمن وحقيقته هو سؤال متكرّر في مجموعتي القصصيّة. - تتناولُ قصة «يوميات جينة» موضوعاً ميتافيزيقياً. برأيك كيف يمكنُ تضمين النص القصصي بأسئلة فلسفية وحضارية من دون أن يخسر هويته الأدبية؟
أظنّ أنّ تضمين أسئلة فلسفيّة أو حضاريّة أو ميتافيزيقيّة في النصّ القصصيّ يصير أسهل حين يكون الكاتب متشبّعاً من الناحيتين، القصصيّة من جهة، والفلسفيّة/الميتافيزيقيّة/العلميّة من جهة أخرى. أظنّ أن خياله سينسج القصّة من دون صعوبة كبرى أو افتعال، ومن دون أن تتحوّل القصّة إلى درس علميّ أو فلسفيّ.
عندما كتبت قصّة «يوميّات جينة»، كنت مهتمّة بعلم التخلّق – هذا علاوة على أنّ جزءاً من عائلتي يشتغل في مجال علم الوراثة، أي أنّني محتكّة بطريقة غير مباشرة بهذا العلم منذ زمن طويل.
لكنّني اقتنيتُ كتباً في علم الوراثة وقرأتها كي أفهم بنفسي. ما أثار اهتمامي في علم التخلّق هو إمكانيّة تغيّر السمات الجينيّة بمفعول تأثير العوامل الخارجيّة، وهذا يعتبر ثورة تخرجنا من الحتميّة الجينيّة التي بقي الإنسان حبيساً فيها خلال العقود الأخيرة.
وهنا يأتي دور الكاتب المغرم بالكلمات والحكايات ليضيف احتمالاً آخر بجانب كلّ الإمكانات التي فتح لها علم التخلّق باباً. وهذه الإمكانيّة تتمثّل في السؤال التالي: هل يمكن أن تعتبر الكلمات أو الحكايات عاملاً خارجيّاً قادراً هو أيضاً على تغيير سمات جينات الإنسان؟ طبعاً، هذا سؤال من باب الاستكشاف الخياليّ البحت، وأجد في مجرّد طرحه متعة كبيرة لأنّها متعة إعمال الخيال إلى حدود بعيدة.