محمد زكي ابراهيم
لم يعد الأدباء والفنانون وأهل الفكر يكترثون لمظهرهم الخارجي، أو يأبهون بارتداء مكملات الأناقة التقليدية، كما كانوا يفعلون من قبل. فأطلق الكثير منهم العنان لشعره الرمادي المجعد، ولحيته البيضاء الكثة، وأسدل قميصه فوق كرشه، برماً بالتقاليد والأعراف القديمة، أو أسوة بالمخترعين العظام، الذين لا يملكون الوقت الكافي للاهتمام بهذه القشور.
ولعل من أشهر ما كانت تحرص عليه النخبة في الماضي ربطة العنق. فهي لازمة من لوازم الأناقة لدى الأساتذة والمعلمين والأطباء والشعراء وموظفي الدولة شتاءً. وفي حقبة ما ألزمت إحدى الشركات النفطية العراقية طبقة المدراء فيها بارتداء ربطة العنق، مع القميص الأبيض ذي الأكمام القصيرة صيفاً. لأنها ترى فيها رمزاً للحزم، والقوة، والكفاءة.
وكان أول رئيس في العالم يتنازل عن ربطة العنق هذه هو الرئيس الأميركي جورج بوش الابن. بعد أن أكمل اجتياح أفغانستان والعراق. فياقة القميص السائبة لديه، تعني الاسترخاء بعد تحقيق الأهداف، وإنجاز المهام!
لكنني اكتشفت لاحقاً أن الموضوع لا علاقة له بآخر صيحات الأزياء في الدول المتقدمة. ولا رابط له بالتقاليد الدينية في دول أخرى، بل أن له صلة عميقة بالبيئة. إذ يشكل التحرر من هذا التقليد جزء من حملة إنقاذ الكوكب من التلوث أو الاحترار الكوني!
وقد أطلقت هذه الصيحة امرأة يابانية تشغل الآن منصب عمدة طوكيو، اسمها يوريكو كويكي. وكانت في ما مضى وزيرة للبيئة، ثم شغلت منصب وزيرة الدفاع لمدة شهرين في منتصف عام 2007. وهي في الأصل مراسلة صحفية، ومذيعة، ومهتمة بالبيئة من مواليد 1952. وهي فوق ذلك خريجة قسم علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في القاهرة. وقد زارت مصر مراراً بعد تخرجها عام 1976. وفي نهاية عام 2007 حاضرت في مؤتمر العرب واليابان في مكتبة الاسكندرية حول ماذا عند اليابان لتقدمه للعرب، وماذا عند العرب ليقدموه لليابان. ولأن مصادر الطاقة هي ما يملكه العرب، قالت السيدة كويكي أن ربطة العنق التي يرتديها الرجال ترفع من درجة حرارة الجسم، وتضطر صاحبها للاستعانة بمكيفات الهواء، أو استهلاك وحدات إضافية من الكهرباء. ومعنى ذلك بالطبع حرق كميات أكبر من النفط أو الغاز أو الفحم. ويؤدي هذا إلى زيادة نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الجو. أي أن ربطة العنق الحمراء أو الصفراء أو الملونة، التي يتمسك بها رجال الأعمال أو مدراء الشركات أو كبار الموظفين، هي سبب مهم من أسباب التلوث!
ربما يجد البعض أن مثل هذه الأفكار متطرفة نوعاً ما، لكن التقديرات ترى أن الحملة الواسعة لمقاطعة ربطة العنق، خفضت ما نسبته 20% من التلوث في اليابان. وهذا إنجاز هائل أسهمت به النخبة المتعلمة، عبر ما تمتلكه من وعي، وما تحرص عليه من قيم. وبرهنت على أنها تستطيع عبر حملات ناعمة منظمة فعل الكثير مما لم تفلح فيه حكومات ودول كبرى في هذا الكوكب.