احتدام المرويات بين تخوم النيران وحافات المياه

أحمد الناجي

تلبسني شغف المتابعة المتناهي في لحظات القراءة المتأنية لما ترويه الكاتبة والصحفية منى سعيد الطاهر، في كتاب (جمر وندى).. فصول من سيرة ذاتية، الذي يقع في (248) صفحة، والصادر عن دار سطور سنة 2020. وتملكني الإحساس بالفخر نحوها بسبب القدرة على مغالبة الظروف القاسية التي مرت بها، والإقبال على الحياة بعزم لا يلين.

ومنذ الشروع بالقراءة حتى الانتهاء منها، تأرجحت مشاعري وتنوعت انفعالاتي على وقع التنافر الضدي الظاهر بين (النار والماء) في كلمتي العنوان/ العتبة النصية الأولى، المنعكسة أصداءها على صفحات الكتاب بأكمله، لقد سرحت بمخيالي في متاهات الأفكار، وجالت المعاني في خاطري، حتى استكان الذهن فجأة لما راح يستعيد مقاربة ارتسمت بفعل ما هو نظير لهذه الثنائية الضدية، التي جاء في صورة شعرية على لسان شاعر يمتهن صناعة الفخار، لم يغب عن انتباهة الشاعر الكبير أدونيس الذي مر على ذكره في كتابه (ديوان الشعر العربي، ج4). وهو الشيخ صالح الكوّاز الحلّي (1817-1873)، الذي يقول في أحد الأبيات الشعرية:

          ما وشوش الكوز إلا من تألمه     يشكو الى الماء ما لاقى من النار

وعليه سيكون منطقياً على شاكلة الصوت الصادر من الطين المفخور الذي نوه عنه الشاعر، أن نتوقع سماع آهات الكائن الحي المصنوع أصلاً من الطين، تعبيراً عن أصداء تململ الجسد والروح، على أثر تعاقب (النار والماء)، فما من ملاذ أنسب من أن يتحول الصوت الى الكلمات، لاسيما بعد أن يأخذ الاكتواء بالنار مأخذاً، ومن ثم إذا ما وفرت الأقدار المنصفة نثيثاً من الماء، فلا بد للإنسان ذو الإحساس الرهيف من (وشوشة)، بحيث تكون قادرة على ضخ الأمل في الحياة، ما دام ظل باقياً على قيد الحياة في قلب العالم القاسي، يكابد الانسحاق بالصبر والتصبر. 

ليس صعباً أن نتخيّل المقاربة بين هذه التورية المجازية في شعر الكوّاز مع الكلمات التي تفصح عنها منى سعيد الطاهر في السيرة/ البوح التي اتحفتنا بها في (جمر وندى)، معبرة عن انفعالات الذات المحتدمة طيلة السنوات المنقضية من حياتها المليئة بـ(الآه والونة). فالوشوشة هي بمثابة ألم ومواجع نابعة مما يعتمل في الصدر، سواء تلك المعاناة التي عاشتها هي في أرض الواقع، أو التي تقطرت في الآذان مما سمعته من حكاوي مؤلمة حول اعتقال الأخت الكبيرة (مفيدة) في سراديب جلاوزة انقلاب 8 شباط 1963 الدموي.

نالت هي والعائلة مجتمعة شتى أشكال الإكراهات المعنوية والمادية في حقب الديكتاتوريات المقيتة، وليس لها من جريرة أزيد من كونها أحبت الوطن على هدى الفكر التقدمي، نشداناً لتحقيق وطن حر وشعب سعيد، وكانت حصتها أواخر السبعينيات من الإجراءات التعسفية القسرية والترويع مضاعفة على المستوي الشخصي، وفي مقدمتها فقدان الزوج الشهيد (سامي العتابي) التي ظلت تعيش بأنفاسه، تعتني بابنتهما الوحيدة.

تحدثت الكاتبة ببلاغة ناصعة عن ظاهرة إنسانية، تمثلت في وجهة نظر شخصية، لا يمكن ان نفصلها عما جرى في مجتمعنا بسبب تغول النظام الاستبدادي وأفاعيل أجهزته الأمنية، فيقتضي بنا الأمر أن ننظر اليها من مختلف الجوانب، وربما يكون الدرس الأبلغ فيها، هو أن الأكثرية الغالبة من العراقيين شربوا العذابات من ذات البئر، وأن كل واحد من القراء سيجد هناك شيئاً ما يخصه بين سطور هذه السيرة، حيث يختلط فيها الجانب الخاص بالعام، ونستطيع من دون عناء أن نلاحظ مبدأ (اجتماعية الإنسان) الذي تنطلق منه الكاتبة، وتوليه ذلك الاهتمام الفائق متبدياً، بما تسطره من مرويات الحياة التي تعيشها على جمر التحديات، ويمكننا تلمّس حيثياته بخاصة في كونها قد أفردت الى جانب (الأنا) حيزاً واسعاً لكل ما يدور حولها، فراحت تلقي الضوء على العلاقات الاجتماعية، منشغلة بتقليبها على مختلف الأوجه، تزيح غشاوة العيون عن بعض الجوانب الخفية والمسكوت عنها، تلاحق أدق الأمور والقضايا، تقدم صورة قريبة عما حاق بالوطن وناسه، وتسرد بقلم صادق تفصيلات حقيقية هامة حول الشأن العام عن الأحوال السياسية الاقتصادية والثقافية في البلد، وتغوص في أعماق الشئون الخاصة، تكشف بقلم مقتدر يمتلك بامتياز الصنعة الكتابية والخبرة الصحفية، قلم ينثال من منابع البوح الوجداني، يدوس فوق لافتة السرية، ويزيح الأقنعة عن تموضع الذات، التموضع الذي يجسد التفاعل مع الأخر، ويعبر عن أحاسيس الكينونة المثقلة بالهموم وسط مجريات الأحداث التاريخية، وينطوي على الفضاءات التواصلية المزدحمة بأنفاس البشر، والحافلة بشتى أنواع التعاملات الإنسانية، حيث يتشكل المغزى، ويتبين المؤمل بوضوح في مقاصد الإبانة عن المستور، فتنساب الكلمات على السجية بلا تزويقات ملونة، ودون تحفظ عن ذكر أسماء الشخصيات، إلا ما ندر، سواء في تناولها ما هو مكشوف فوق سطح الحياة، أو ما هو لامرئي ومضمور بين طوايا السرائر الجوانية.

لقد طافنا وأياها حول أزمنة العمر، نتحسس الغربة ونعيش الاغتراب ونحن نطالع هذا السفر الكتابي المؤلف من (88) عنوان فرعي، وإذا شئت قل (88) محطة تاريخية، فضلاً عن بقية العتبات النصية، الإهداء والشكر ومقدمة الكتاب، بالإضافة الى تقديم الأديب عبد الستار البيضاني الذي جاء تحت عنوان (حياة متنقلة). تجولنا بين أمكنة متعددة وفضاءات متنوعة وأجواء متباينة، وهي تلتقط الأقاصيص التي تفت القلب، من زمن عشناه تحت وطأة الاستبداد، ضاعت فيه الحقيقة واختنقت به الحرية، وفي نهايته رحل الجلادون الى مزابل التاريخ بغير رجعة، وبقيت ذكرى (سامي) الذي منح الوطن حياته عطرة بيننا، وتعيش (منى) التي لملمت شظايا الروح المتناثرة، بصحبة الأحلام وحب الوطن مرفوعة الهامة، تعتز بماضيها الناصع المشرف، روضت المرض الغادر، حالمة بالغد القادم الأفضل.

هذه التفصيلات وغيرها الكثير والكثير من الالتقاطات المحملة بالمشاعر والانطباعات والتأملات، جاءت بها الكاتبة من مرابع الحياة، بعد أن مدت جسراً يصل بين تخوم النيران وحافات المياه، ووضعتها بين دفتي هذا الكتاب، وقدمها لنا بأسلوب سلس على طبق من الخفة والانشراح، مغموسة بالسخرية السوداء، التي غلبت فيها الرؤية المتفائلة على المتشائمة. ولا أظن أن أحداً سيختلف معي بشأن حقيقة واضحة مفادها أن الكاتبة أرادت أن تقول أن معاناتها هي بنت المعاناة الكبرى التي عاشها الوطن برمته في حقبة الديكتاتورية البغيضة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة