لا يحتاج العراقيون الى من يساعدهم لمعرفة هذه التسمية (القرج) والتي تطلق على من تتسيد الحارة الشعبية من النساء العابرات للاعراف الاجتماعية والقوانين، مستعينة بسمعتها العدوانية وصوتها الرنان وقدرتها على ممارسة كل السلوكيات المارقة والمشينة في البطش بكل من تسول لها نفسها في الاقدام على تحديها أو مواجهة تجاوزاتها المستمرة. وحده عالمنا الجليل علي الوردي انتبه لمثل هذه الظواهر الاجتماعية وابعادها السلوكية والنفسية العميقة، لكن من سوء حظ العراقيين ان دراساته واهتماماته الرائدة تلك لم تجد من يحمل همها بعد رحيله. هذا العنوان (القرج) والذي يبدو بسيطا وعابرا أو خاصا بالحارات الشعبية، لم يكتفي بتلك الحدود الضيقة ابدا، ومن يتعقب شيئا من محطات العراق السياسي الحديث ولا سيما منه، حقبة ما عرف بـ “جمهورية الخوف” سيجد في هذا العنوان وبيئتة ومناخاته ومعاييره، منظومة متكاملة من الشروط التاريخية والاجتماعية والقيمية التي تعينه على تفكيك طلاسم ما جرى لا لعراق ما قبل “التغيير” وحسب، بل بشكل أعمق واوسع فيما جرى بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين.
ربيع عام 2003 سقط “القرج الضرورة” لكن سلطة هذا العنوان (القرج) ومكانته في اغوار النفس العراقية التي خضعت لسطوته طويلا، ليس لم تتأثر وحسب بل ولجت الى ابعاد وتضاريس جديدة، حيث لم يمر وقت طويل حتى اعلنت “الصناديق” عن بيعتها المتتالية لممثلي هذا العنوان وثوابته الجليلة وخطوطه الحمراء ورموزه الجديدة. أكثر من 16 عاما مرت على ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، قدم فيها العراقيون أسوأ الامثلة في تجارب البلدان على هذا الطريق، من دون أن يجدوا في انفسهم كسرة من الشجاعة والجرأة على التقرب من سر كل هذه الهزائم والخيبات التي ترافقهم، لقد القوا بعلل قسمتهم العاثرة هذه على كل الشماعات الا “سلطة القرج” وهيبته المتحكمة بهم لا شعورياً. لذلك ستلتحق كل محاولاتهم للعيش كباقي الامم التي اكرمتها الاقدار بالكرامة والحريات وشرعة حقوق الانسان، الى ارشيفهم المرصع بالهزيمة والخذلان؛ ان لم يفكروا أولاً وقبل كل شيء في كيفية تقويض تلك السلطة الغاشمة والمعطلة لمواهبهم وشيمهم الاخرى المتخصصة بالخلق والابداع والفضول المعرفي وصناعة الجمال.
لن نكشف عن جديد عندما نتطرق الى الدور السلبي الذي تمارسه غالبية وسائل الاعلام ونجومها من حاملي الالقاب الضخمة (محللين ومفكرين وباحثين و..) الذين يشددون من عتمة والتباس المشهد بما يضخونه من طفح الخطابات وسكراب التنظيرات حول ما يحصل من فورات عابرة على الصعيد الرسمي والشعبي، حيث نجدهم يحرصون على عدم التقرب من حدود ذلك الارشيف الضخم، من الهزائم والانكسارات وما تضمه اقطاعيات “القرج” من هيمنة على ارادة ومشيئة ذلك الحطام الواسع من المعطوبين والمذعورين. كما يمكننا اكتشاف هذا الخلل البنيوي فيما حصل مع الاحتجاجات الأخيرة وما رافقها من تداعيات ومفارقات، والتي صورها غير القليل من نجوم وفرسان المنصات والمنابر ووسائل الاعلام، بشكل بعيد كل البعد عن حجمها وتطلعاتها التي لا تتقاطع في نهاية مطافها مع السلطة المهيمنة في الشوارع والحارات وسراديب النفسية العراقية. ان “سلطة القرج” تختزن شحنات ومضامين قيمية وثقافية، ومن دون ولادة زحزحة فكرية شجاعة ومسؤولة للمواجهة مع ارثها الاجرامي والظلامي تتحول كل الاحتجاجات ومحاولات اصلاح وتغيير الحال والاحوال الى مجرد دقلة اضافية على طريق الضياع..
جمال جصاني